صحيح أن اسم قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، حاضر بشكل متواصل في جميع قضايا منطقة الشرق الأوسط، من العراق وسورية فلبنان واليمن، وغيرها من الدول ــ الملفات، غير أنه يحتل، في هذه الأيام، مساحة استثنائية من بوابة الحدث العراقي خصوصاً، مع تداول معلومات تفيد بأن "الرجل الأقوى في المنطقة"، مثلما يُوصَف، متواجد حالياً في بغداد، حيث يشرف شخصياً على التطورات العسكرية في بلاد الرافدين منذ سيطرة المسلحين على مناطق شاسعة في شمال وغرب بلاد الرافدين. كل ذلك بالتزامن مع انتشار تقارير عن أن إيران نشرت كتيبتين في شمال مدينة سامراء وتكريت لمحاربة المسلحين هناك، إضافة إلى تأمين حماية بغداد والنجف وكربلاء، لأهمية هذه المحافظات لوجود مراقد مقدسة لدى الطائفة الشيعية.
يتزعم سليماني "فيلق القدس" منذ نحو 15 عاماً، وهو خليط من جهاز استخباري وقوة خاصة، تابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يرفع شعاراً رسمياً هو "تحرير القدس". بيد أن مهماته تصل إلى "تقويض أعداء إيران"، وتوسيع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
يصفه المسؤول السابق في وكالة المخابرات الأميركية، الـ"سي آي إيه"، جون ماكواير، بأنه "الرجل الأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط، مع ذلك فالرجل قلما يظهر للعلن".
كما يقول عنه مسؤول عراقي سابق إنه "على الرغم من قصر قامته وصغر حجمه، لكنه يملأ المكان بوجوده". ويضيف أنه "يستخدم ذكاءه وخبرته الاستراتيجية والمال للحصول على ما يريد من السياسيين في أرجاء الشرق الأوسط، ويلجأ للتصفيات الجسدية كخيار أخير لتحقيق أهدافه". في المقابل، يشير زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إلى أن سليماني هو "الرجل الأقوى في العراق"، وذلك في مذكراته التي نشرها في 5 اغسطس/آب 2012 تحت عنوان "الهدف من زيارة اربيل".
من جهته، يكتفي المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، السفير السابق في العراق، رايان كروكر، بالقول إن سليماني هو نموذج لـ"الرجل البراغماتي".
التحق سليماني بالحرس الثوري في بداية تشكليه إثر سقوط الشاه في 1979، ومجيء مؤسس الجمهورية الإسلامية الايرانية، روح الله الخميني. وجاء تشكيل هذا الجهاز على أيدي قادة من رجال الدين لإفشال أي محاولة انقلاب محتملة من قبل قادة الجيش الإيراني السابق. وفي الأيام الأولى من التحاقه بالحرس الثوري، أُرسل سليماني إلى شمال غرب إيران لإخماد العصيان الكردي هناك. وكانت المهمة الأولى التي شارك فيها، في الحرب العراقية الإيرانية، هي تجهيز الماء للجنود في ساحة المعركة، وتمت ترقيته على مدى سنوات الحرب ليصبح قائد فرقة.
وتقلّد سليماني منصب قائد فيلق القدس في العام 1998. ويرجع لسليماني الفضل في تنظيم عمل هذا الجهاز الذي، وبحسب تقارير استخبارية غربية، يتركز عمله على عمليات استخبارية وتمويلية وتخريبية، بالإضافة إلى عمليات خاصة. ويتكون فيلق القدس من 10 آلاف إلى 20 ألف عنصر. كما وضعت وزارة المالية الأميركية اسم سليماني على قائمتها السوداء، بسبب "دعمه لنظام بشار الأسد في سورية ودوره في تصاعد الإرهاب في المنطقة".
رسم سياسة العراق
لم تُسلَّط الأضواء على هذا الرجل الخمسيني، صغير البنية، ذي الشعر الفضّي، إلا بعد غزو العراق في 2003، عقب إدارته المباشرة للملف العراقي، مع أنه كان طوال سنوات الحرب الثماني بين العراق وإيران (1980-1988) قد تسلّم مناصب مهمة. واستطاع سليماني في تلك المرحلة تعميق علاقاته بالمعارضة العراقية، الكردية والشيعية على حد سواء، وأشرف على تدريب مليشياتها، التي كانت تقاتل ضد الجيش العراقي السابق، من أهمها مليشيا فيلق بدر (تعرف الآن باسم منظمة بدر).
يقول السفير الأميركي السابق في العراق، رايان كروكر، إنه كان قد طلب من سليماني، عبر وسطاء من السياسيين الشيعة العرب، ترشيح أعضاء "مجلس الحكم"،(تشكل مباشرة بعد سقوط النظام السابق)، وكان المرشح الذي يعترض عليه سليماني لا تضعه الولايات المتحدة ضمن قائمة المرشحين لهذا المجلس"، بما أن "تشكيل مجلس الحكم، بُني على أساس تفاهمات بين طهران وواشنطن" بحسب اعتراف كروكر نفسه.
ولا يخفى دور سليماني البارز في حصول المالكي على ولاية حكومية ثانية في 2010، في ظل معارضة ترشيحه من قبل إطراف عدة، أهمها مقتدى الصدر. ويرجع لسليماني الفضل في منع انهيار التحالف الشيعي، "الائتلاف الوطني"، في نهاية عام 2011، عندما حاول مقتدى الصدر، بمعية معارضين آخرين للمالكي، من العرب السنة والأكراد، سحب الثقة من المالكي، بما عُرف في حينها بـ"اتفاقية أربيل" في أبريل/نيسان 2012. وكان الصدر قد كشف عن وجود ضغوط إيرانية تمارس عليه في أكثر من مرة، ومنها في مذكراته.
وكانت تقارير قد كشفت أن سليماني قد مارس ضغوطات كبيرة على القادة الأكراد في العراق، للسماح بمرور مساعدات إيرانية إلى نظام الأسد في سورية، ولم يرضخ الأكراد إلى ضغوطه. ومع ذلك، توصف العلاقة بين سليماني والقادة الأكراد بـ"العميقة" و"المعقدة" في آن، منذ كانت طهران تدعم الأكراد وتمنحهم اللجوء خلال فترة النظام السابق.
وكشف القائد الاميركي السابق، الجنرال ديفيد بترايوس، أنه استلم رسالة نصية أرسلها له سليماني على جوال الرئيس العراقي المنتهية ولايته، جلال طالباني، يقول له فيها "عزيزي، يجب أن تعلم أنني قاسم سليماني، المسؤول عن سياسة إيران في العراق ولبنان وغزة وأفغانستان... ويجب أن تعلم أن السفير الإيراني في بغداد هو عنصر من فيلق القدس، والسفير المقبل سيكون كذلك". وكان بترايوس قد وصف سليماني، في تقرير أرسله إلى البيت الأبيض، بـ"الرجل الشرير".
وكان سليماني قد زار العراق في مارس/آذار الماضي، بحسب تقارير تناقلتها صحف عراقية وعربية، والتقى خلالها بعدد من كبار الشخصيات العراقية ومراجع دين، موالين لخط مرجعية الولي الفقيه ومرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي. كان هدف الزيارة "حل الخلافات بين الزعماء الشيعة التي أخذت تهدّد احتفاظ الشيعة بمنصب رئيس الحكومة" الذي ستحدّده انتخابات 30 أبريل/نيسان الماضي، بحسب هذه التقارير.
ويشرف سليماني على الفصائل الشيعية المسلحة في العراق، من أهمها: منظمة بدر وبعض العناصر المنشقة من جيش المهدي، عصائب أهل الحق، حزب الله-العراق، كتائب حزب الله، ثأر الله، كتائب أبو الفضل العباس وغيرها الكثير من الفصائل الشيعية التي تقاتل مع نظام الأسد في سورية.
ويبقى أكبر "إنجاز" حققه سليماني في العراق، بحسب المراقبين، هو إقناع حلفائه في العراق بالسماح لفتح المجال الجوي العراقي أمام المساعدات الإيرانية إلى نظام الأسد في سورية. ويقول قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط السابق، الجنرال جيمس مات، إنه "لولا مساعدة قوات نظام الأسد عبر فتح المجال الجوي العراقي للطائرات الإيرانية، لكان النظام السوري قد انهار منذ فترة طويلة". وتربط وزير المواصلات العراقي، وقائد منظمة بدر، هادي العامري، علاقة متينة مع قاسم سليماني، بحسب مصادر عراقية.
دور بارز في سورية
ولا يخفى الدور البارز الذي أدّاه سليماني في سورية من خلال الدعم العسكري واللوجستي لنظام الأسد وحزب الله اللبناني لمنع سقوط الأسد. ويعتبر سليماني أن إنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط، "مسألة كبرياء"، بحسب ما نقلته مجلة "نيويوركر" الأميركية عن مسؤول عراقي سابق في سبتمبر/أيلول العام الماضي. ونقل عن سليماني قوله "نحن لا نشبه الأميركيين، نحن لا نتخلى عن أصدقائنا".
وبسحب المسؤول العراقي نفسه، فإنّ سليماني انتقد الجيش السوري، واصفاً إياه بأنه "عديم الفائدة"، ونُقل عنه قوله إنه يتمنى لو يستطيع أن تمنح له صلاحية استخدام كتيبة واحدة من "الباسيج" (جهاز الأمن الإيراني) "لكنتُ قد سيطرت على سورية بأكملها".
وذكرت تقارير غربية أن سليماني بدأ يزور دمشق بشكل متواصل في الآونة الأخيرة للاشراف بنفسه على المهمات التي يقوم بها الحرس الثوري هناك. ويقيم سليماني في مبنى محصن، ويدير هناك ضباطاً كباراً من الجيش السوري، إضافة إلى قيادات من حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية شيعية، بحسب ما نقلته مجلة "نيويوركر" عن مسؤول في وزراة الدفاع الأميركية "البنتاغون".
كما يتهم الغرب سليماني بأنه أعطى أوامر إلى الاستخبارات السورية لغضّ الطرف عن حركة المتشددين السنة في وتنقلاتهم بين إيران وسورية.
حضور واسع في لبنان
نجح قاسم سليماني في تعزيز علاقته مع قيادات حزب الله اللبناني، منهم الراحل عماد مغنية وزعيم حزب الله، حسن نصر الله. ويقول السفير السابق في العراق، كروكر، إن فيلق القدس "أصبح له وجود واسع في لبنان من خلال تدريب عناصر حزب الله وتزويده بالاستشارات والخطط إبان الإحتلال الإسرائيلي للبنان".
وذكرت تقارير أميركية، أن سليماني وحسن نصر الله، تربطهما علاقة متينة. وبحسب الخبير الإيراني في "أميركان أنتربراس أنستتيوت"، ويل فوتون، فإنّ عملية اقتحام مدينة القصير في القلمون السورية الحدودية مع لبنان، على يد عناصر حزب الله في يونيو/حزيران الماضي، تمت بإشراف مباشر من قبل سليماني.
تمدد "فيلق القدس" نحو الخارج
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، تركز عمل سليماني في المناطق الحدود الإيرانية ــ الأفغانية لتجديد ودعم الأفغان الذين يقاتلون ضد حركة "طالبان". كما كثّف سليماني من حملاته لمكافحة تهريب الأفيون عبر الحدود الأفغانية.
وطبقاً لتقارير غربية، أشرف سليماني على أكثر من ثلاثين خطة لعمليات عسكرية، تشمل مدناً في تايلاند ونيودلهي ولاغوس ونيروبي على مدى السنوات الثلاث الماضية. وكانت إحدى هذه العمليات، محاولة اغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة عادل الجبير، والتي نفتها الجمهورية الإسلامية بشدة. وعلى أثر هذه العملية المزعومة، طلب مسؤولون أميركيون من الكونغرس إلقاء القبض على سليماني أو اغتياله إن تطلب الأمر، وخصوصاً أنه يتنقّل بكثرة.
ويقول المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، السفير السابق في العراق، رايان كروكر، إن "الأميركيين علموا أن فيلق القدس، وبإشراف سليماني، كان قد جهز عدداً من عناصر تنظيم القاعدة، الذين كانوا يقيمون في إيران لتنفيذ هجمات خارح إيران".
الداخل الإيراني: "الشهيد الحي للثورة"
وينظر الإيرانيون القوميون إلى سليماني بأنه بطل، خصوصاً بسبب مشاركته في الحرب العراقية ــ الإيرانية خلال ثمانينيات القرن الماضي، إذ كان قائد فرقة، بالرغم أنه كان في العشرينات من عمره. ويرتبط سليماني بعلاقة ممتازة مع مرشد الثورة الايرانية، علي خامنئي، الذي وصف سليماني بـ"الشهيد الحي للثورة الإيرانية".
ويعتبر سليماني أحد أبرز المحافظين المتشددين الذين يدافعون عن "النظام الثوري الإيراني" ويتمتع بصلاحيات واسعة ترسّخ توجهات المرشد الإيراني. وكان سليماني أحد قادة الحرس الثوري الإيراني الذين طالبوا الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي، أن يبتعد عن دعم احتجاجات الطلبة في العام 1999، وتوعدوا بإقالته إن واصل تأييد المعارضة.