في هندسة التطرف
ذهب متتبعون ودارسون عديدون إلى حد اعتبار التطرف الإسلامي المعاصر منتوجاً غربياً بدرجة أولى، أنتجته الحضارة الغربية لتخلق باسمه نوعاً من "الحوار التصادمي" مع الحضارة الإسلامية، ذلك أن هذا النوع من الحوار الـ "عُنفي" يعتبر من المداخل الضرورية الضامنة لاستمرار وجودها! وبناء على ذلك، ليس هناك، في الحقيقة، أي صراع بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى، وإنما هناك صراع الحضارة الغربية مع أحد أهم وأخطر منتجاتها، وهو التطرف الديني الجديد.
ومهما يكن من حقيقة هذا التطرف المعاصر، بأشكاله وتلويناته المختلفة التي تتنافى مع روح الإسلام، إلا أن الثابت أنه يوظّف من أجل إعادة ترتيب العلاقة بين الإسلام والغرب، وَفق ما تمليه المصالح السياسية الغربية بالأساس، على أن هذا لا يعني نفي وجود هذه النبتة داخل التربة العربية. لكن، هناك فرق بين تطرف حكمت وجوده ظروف سياسية وثقافية واجتماعية معينة، تجعله دائما على الهامش، وتطرف يظهر كالنبتة الشيطانية، من دون مقدمات، ويكتسب مقدرة عجيبة على التأثير في المحيط السياسي المعاصر.
وإذا كانت الحضارة الغربية قد سعت إلى القضاء على التطرف الديني الكنسي، في مرحلة زمنية من تاريخها؛ فمما لا شك فيه أنها صنعت أشكالاً جديدة بديلة عن التطرف الديني التقليدي الذي عاشته، على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. ولعل ظواهر، مثل الحروب الصليبية والاستعمار والعولمة والصهيونية، من أدل الأمثلة على النزوع الغربي المتأصل نحو ممارسة التطرف بشكل مقصود، وهي ظواهر مؤسسة على أفكار مغلقة، مبنية على أساس من الإقصاء والكراهية والتهميش والتمركز حول الذات، وتحمل في طياتها بذور ازدراء أديان الشعوب الأخرى المخالفة ومعتقداتها.
وتعكس تجليات التطرف الغربي، بكل أبعاده وانعكاساته السلبية على المجتمعات الأخرى، حقيقتين أساسيتين؛ أولاهما أنه ليس ظاهرة عَرضية مؤقتة وقابلة للزوال مع زوال أسبابها، وإنما هو جزء من بنية العقل الغربي ذي النزعة التسلطية، ما يعني أن كل دعاوى السلم والحوار والجِوار ليست جوهرا ثابتا في الثقافة الغربية، بل هي مجرد عرض وظل متحول. أما الحقيقة الثانية فهي أن التطرف الغربي، في أغلبه، متجه نحو المخالف من الثقافات الأخرى، حيث تُعطى له الشرعية بأساليب شتى، لعل أكثرها انتشاراً حرية التعبير والرأي، وهذه الأساليب تجعله خارج إطار المحاسبة والمتابعة، بل وتضمن له الحماية اللازمة لضمان اشتغاله، فيصير تطرفاً قانونياً وحضارياً اقتضته روح العصر!
وإذا كان التطرف ظاهرة بشرية وجزءاً من بنية أي ثقافة، يتمظهر بأشكال مختلفة؛ فالذي يميز التطرف الغربي عن التطرف الإسلامي، أن الأول حضاري شامل ثاو في الذهنية الغربية، ونتيجة من نتائج أفكارها وفلسفاتها المدمرة للإنسان والطبيعة، في حين أن التطرف الإسلامي ظل، عبر التاريخ، يمثل حالة شاذة منبوذة، سواء كان متجها نحو الداخل أو الخارج، فكرياً أم سلوكيا، على أن هذه الحالات المتفرقة، والتي يتم الاتكاء عليها إعلاميا وسياسياً غالبا ما تكون رد فعل على التطرف الغربي، وهذا لا يعني، بأي حال، تبريرها، فهي تعكس درجة من العقم الفكري والثقافي، وعدم القدرة على وضع الأمور في سياقها، والتعامل معها بأساليب حضارية، من شأنها أن تعكس الطريقة المثلى لتعامل الدين الإسلامي الحنيف مع المخالف، أيا كانت طبيعته.
إن أسوأ ما يحصل، الآن، هو الاتجاه نحو هندسة التطرف، وإدخاله في متتالية الصراع مع الآخر بطريقة براغماتية، حسب ما تقتضيه المصلحة، إذ يتم، أحياناً، السكوت والتغطية على جرائم إرهابية بل ودعمها، وأحياناً أخرى، يتم شجب أشكال أخرى من التطرف والتصدي لها، حيث يصبح الهم المؤرق ليس القضاء عليه، بل البحث عن المداخل المساعدة على استغلال حالاته الجزئية، وتحويلها إلى قضايا مركزية، فيتم ممارسة تطرف مضاد، بذريعة محاربة التطرف.