في مقبرة صغيرة جهة المستقبل

22 يونيو 2014
المنجرة مع الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة (1991)
+ الخط -

برحيل المهدي المنجرة (1933-2014) ودّع المغاربة، وكل مقهوري العالم الثالث، صوتاً حرّاً ورمزاً ثقافياً صلباً تجاوز إشعاعه الحدود العربية، كما رأى كثيرون في كتاباته سيناريو موضوعياً لما عرف لاحقاً بثورات وانتفاضات الربيع العربي التي ما زالت تعيش مخاضها العسير والدامي.

المفكر الذي رحل بهدوء يوم الجمعة 13 حزيران/ يونيو عن 81 سنة، شُيّع أيضاً بهدوء في اليوم التالي. لم يدفن الراحل في مقبرة الشهداء التاريخية، مثل كل الراحلين من فنانين ومثقفين مغاربة معروفين، كما كان متوقّعاً، بل وُرِي الثرى في مقبرة صغيرة بحي "الرياض" الرباطي، ضمن حضور قليل لمثقفين وحقوقيين ومعارف.

ولد المهدي المنجرة في 13 آذار/ مارس 1933 في الرباط، وأتم دراساته في الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترا. تولى مهمة مدير الإذاعة والتلفزيون سنة 1954، إضافة إلى عدة مناصب علمية رفيعة. كما ساهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات.

أولى الراحل أهمية كبرى لإشكالية القيم، واعتبرها المدخل الأهم لمقاربة إشكالية التخلّف في العالم العربي، إلى جانب تأكيده على ضرورة إعطاء الأولوية للبحث العلمي كمدخل لامتلاك المستقبل. وتميّز بالاختلاف والجرأة والشجاعة، ما جعله يدفع أثماناً كبيرةً وصلت إلى حد منعه من الظهور العام في بلده.

واظب المنجرة على انتقاد أطماع الإمبريالية الجديدة وتواطئها المفضوح مع الحكومات المحلية، وظل يؤكّد على حق شعوب العالم الثالث في تنمية مستدامة ومستقلة. من أهم كتبه: "نظام الأمم المتحدة" (1973)، "من المهد إلى اللحد" (1981)، "الحرب الحضارية الأولى" (1991)، "القدس العربي، رمز وذاكرة" (1996)، "حوار التواصل" (1996) "مسار فكر- حوارات مع حسن نجمي ومحمد بهجاجي" (1997)، "عولمة العولمة" (1999)، "انتفاضات في زمن الذلقراطية" (2002)، "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" (2004)، "قيمة القيم" (2007).

إلى جانب اللغة العربية، أتقن المنجرة اليابانية والإنجليزية والفرنسية. وفي نظره، تعدّ اللغة ركناً من أركان التنمية الثقافية والاقتصادية. كما واجه دعوات بعض الجهات الفرنكوفونية إلى استعمال الدارجة المغربية على حساب العربية الجامعة.

مسار المنجرة المثير للجدل أبعد عنه الكثيرين من أصحاب المصالح، وهذا ما كشفته أزمته المرضية وجنازته. ألم يقل ذات يوم: "هناك أناس سمعوا أن الوطن غالٍ فباعوه".

الكاتب أحمد الكبيري قال لـ"العربي الجديد": "قبل سنوات طويلة شاهدتُ على الشاشة مائدة حوارية للمنجرة، قبل أن أتعرّف إليه مباشرة، وكان الرجل يتحدث بصدق ووضوح وشجاعة نادرة في تلك المرحلة من تاريخ المغرب، مرحلة تعلم فيها الكل اللغة الخشبية التي لا تقول شيئاً في النهاية. في تلك اللحظة بالذات وَشم المنجرة ذاكرتي بذكائه ومواقفه التي ظل، طيلة حياته، يعلنها بنفس الجرأة والصراحة".

أما الباحث والناقد الأدبي عبد اللطيف الوراري فقال: "لقد فوّتنا على أنفسنا الاستفادة من فكر الرجل وعلمه، إذ عاش أواخر أيامه محاصراً وغير مرغوب فيه في بلده، فمات وفي نفسه زفرة خزيٍّ. وإنه لمن المؤسف أن يستمر مسلسل إقصاء المثقفين والعلماء في مرحلة نحتاج فيها إلى تأسيس مشروع مجتمعي وثقافي جدير بالقضايا المصيرية".

من جهته، ذهب الفنان والناشط الحقوقي سعيد حجي إلى القول: "الرجل ترك لنا إرثاً ثقافياً هو الآن مسؤولية عظمى يتوجب أن نكون على مستواها. كما أنه مثال للمثقف النزيه، فقد رفض المناصب من أجل أن يعيش نظيفاً، ومات بشموخ".

المنجرة من جيل المثقفين المؤسسين، كمحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي. صحيح أن رحيلهم خسارة لمرحلة تميزت بالرصانة الفكرية والالتزام الأخلاقي والتطلّع إلى مشروع يخصنا، لكن يبقى العزاء في ما كتبوه وما سجلّوه من مواقف. فتلك هي الآثار الباقية ما دام هناك من يعيد إحياءها بالقراءة، ويعمل على تحويل تلك الأفكار إلى برنامج عمل.

المساهمون