أنا من جيل خمسينيات القرن العشرين. تربيّت على ثقافة قومية ناصرية وبعثية وشيوعية وعلمانية. وقد تدرج عندي معنى الوطن نزولاً أو صعوداً عبر تلك المراحل، غير أني كنت أميل في سرّي إلى الاسم الذي يتداوله أهلنا الطيبون بدون حمولات إيديولوجية معبأة بمفاهيم سياسية، أعني كنت أميل إلى لفظ "البلد" بدلاً من "الوطن". ربما لهذا فهمت وأحببت نشيد "بلادي بلادي" أكثر من نشيد "موطني" أو "وطني الأكبر".
الوطن قاموسياً، تعني مكان إقامة الإنسان ومقره، وإليه انتماؤه، وُلِد به أو لم يولد. أما الوطن وفق المفاهيم السياسية، فله دلالات وأغراض مختلفة. هو مصطلح سياسي حديث أو مُحْدَث، لم تتعرّف عليه اللغة العربية قبل مطلع القرن العشرين إلا بالمعنى القاموسي.
بعد الحرب العالمية الثانية، وما مرّت فيه بعض البلدان العربية من انقلابات، أفرزت في المحصلة طغاة حالمين بعروش أبدية، أخذ الاستثمار في مفهوم الوطن والشغل عليه إعلامياً وسياسياً وأمنياً، أبعاداً أوسع انتشاراً واتّجاراً وتضليلاً وتهديداً لكل من يخالف الطاغية الذي اختصر الوطن والوطنية في شخصه؛ فإن كنتَ ضده أو ضد أقواله ونظامه، فلا بدّ أنك ضد الوطن. هكذا تعرّضت لفظة الوطن، بالمعنى السياسي، إلى أوسع "تشنيع" ممكن في إعلام الأنظمة الاستبدادية.
تعلَّمت في شبابي بعضاً من أقوال "الأب القائد". المعروف لأبناء جيلي أن المقصود بالأب القائد؛ حافظ الأسد. وكنت أشعر بالذل عند وصفه بالأب، ذلك لأن لي أباً أحبه وأحترمه وأراه أباً كافياً ويزيد. مع ذلك لم أكن أسمح له بأن يكون قائدي، فكيف أسمح لغيره؟. هذه إحدى
الإشكاليات في شبابي، فضلاً عن إشكاليات كثيرة مع المجتمع والدولة والدين.
من أقوال "الأب القائد"، المتاجِرة بالوطن والمواطن وتفخيخ العلاقة بينهما، هذا القول الذي أتذكّره بمضمونه وربما بحرفيته: "وطن حر يعني مواطناً حراً".
أكبر أكذوبة أو مغالطة عرفتها في حياتي هي هذا القول "للأب القائد"، الذي يستعبدني ويصادر الوطن لصالحه ويعدني بتحريره لأغدو حراً! إذن سأبقى عبداً إلى أن يتحرّر الجولان، وكما ثبت فعلياً فإن "الأب القائد" لا يريد تحريره، والنتيجة: لا مناص من العبودية.
عندما بدأت أميل إلى العلمانية وأقرأ عن مجتمعات سبقتنا حقوقاً وواجبات، وكذلك في التطوّر الثقافي والعلمي والتكنولوجي ومستواها المعيشي، اقتنعت أن من يسمّي نفسه "الأب القائد" ما هو إلا دجال، وأن الوقائع والحقائق عبر التاريخ تقلب القول وتعيده إلى موقعه الصحيح: مواطن حر يعني وطناً حراً. وقد استطاع المواطنون الأحرار عبر التاريخ أن يخلقوا وطناً "بلداً" حراً، في حين لم يستطع المواطنون العبيد الراضخون لعبوديتهم أن يخلقوا ولا أن يصونوا وطناً "بلداً" حراً.
لاحقاً قرأت تعريفاً للوطنية يدين حافظ الأسد، فارتحت للأمر كثيراً. ملخّص التعريف "إن الوطنية تعني تحقيق الاستقلال الناجز سياسياً واقتصادياً عن الإمبريالية". ولأن الأسد لم يحقق هذا الاستقلال فهو غير وطني. ولأنني ضدّ طغيان الأسد، فقد انسقت وراء هذا التعريف الذي تبين لي مع الوقت أنه تعريف ينطوي على قصور ونقص وربما دوغمائية، إضافة إلى وقوعه في ربقة الفكر السوفييتي في تلك الفترة، رغم أني كنت أنتمي حينها إلى حزب له ملاحظات وانتقادات كثيرة على النظام السوفييتي.
كانت صفة "وطنيّ" في تلك الأيام، تنطوي على أبعاد نضالية إيجابية بإطلاق. كان يكفي أن تقول إن شخصاً أو حزباً أو نظاماً ما وطنيّ أو لا وطني، ليكون حكم القيمة بشأنهم جاهزاً بالمعنى الإيجابي أو السلبي.
منذ قرابة ثلاثين عاماً تغيرت رؤيتي للأمور. عدت إلى ما هو أقرب إلى فطرتي. الإنساني أرقى وأعلى من الوطني. والتجارة بمفهوم الوطن والوطنية صارت مفضوحة بالنسبة لي. كان الجرح الفلسطيني تجارة رابحة لتجّار السياسة والطغاة الذين ركبوا شعوبهم تحت هذه اليافطة. الحكام القومجيون العرب هم أكثر من تاجروا بفلسطين، إذ أعلنوا "قولاً" أنها القضية المركزية للوطن العربي الكبير، وبالتالي صارت الوطنية متمحورة حول فلسطين كشعار، في حين عانى الفلسطينيون الويلات على أيدي أؤلئك القومجيين.
لقد احتاج الأمر إلى اضطهادات وسجون ومجازر وخيبات كثيرة لحقت بالفلسطينيين على أيدي أنظمة تدعي الوطنية، لأكتشف بعدها أن هتلر كان وطنياً ولكنه ليس إنسانياً، وكذلك موسوليني وبول بوت والأسد وكيم جونغ أون وأبوه، إلى آخر سلسلة الطغاة. لأن الأمر يتعلق بأي زاوية يُنظر منها إلى الوطني وما هو السلوك المترتب على هذا الأساس، وما طبيعة انعكاسه لا على أنصار الوطنية فحسب، بل على المواطنين الذين انقرضوا بانقراض حقوقهم وواجباتهم.
صار من البداهات بالنسبة لي، أن لا وطن بدون مواطنين، والعكس صحيح.
اقرأ أيضا: ملاحظتـان عن "مسألة فلسطين" والسلام"
الوطن قاموسياً، تعني مكان إقامة الإنسان ومقره، وإليه انتماؤه، وُلِد به أو لم يولد. أما الوطن وفق المفاهيم السياسية، فله دلالات وأغراض مختلفة. هو مصطلح سياسي حديث أو مُحْدَث، لم تتعرّف عليه اللغة العربية قبل مطلع القرن العشرين إلا بالمعنى القاموسي.
بعد الحرب العالمية الثانية، وما مرّت فيه بعض البلدان العربية من انقلابات، أفرزت في المحصلة طغاة حالمين بعروش أبدية، أخذ الاستثمار في مفهوم الوطن والشغل عليه إعلامياً وسياسياً وأمنياً، أبعاداً أوسع انتشاراً واتّجاراً وتضليلاً وتهديداً لكل من يخالف الطاغية الذي اختصر الوطن والوطنية في شخصه؛ فإن كنتَ ضده أو ضد أقواله ونظامه، فلا بدّ أنك ضد الوطن. هكذا تعرّضت لفظة الوطن، بالمعنى السياسي، إلى أوسع "تشنيع" ممكن في إعلام الأنظمة الاستبدادية.
تعلَّمت في شبابي بعضاً من أقوال "الأب القائد". المعروف لأبناء جيلي أن المقصود بالأب القائد؛ حافظ الأسد. وكنت أشعر بالذل عند وصفه بالأب، ذلك لأن لي أباً أحبه وأحترمه وأراه أباً كافياً ويزيد. مع ذلك لم أكن أسمح له بأن يكون قائدي، فكيف أسمح لغيره؟. هذه إحدى
من أقوال "الأب القائد"، المتاجِرة بالوطن والمواطن وتفخيخ العلاقة بينهما، هذا القول الذي أتذكّره بمضمونه وربما بحرفيته: "وطن حر يعني مواطناً حراً".
أكبر أكذوبة أو مغالطة عرفتها في حياتي هي هذا القول "للأب القائد"، الذي يستعبدني ويصادر الوطن لصالحه ويعدني بتحريره لأغدو حراً! إذن سأبقى عبداً إلى أن يتحرّر الجولان، وكما ثبت فعلياً فإن "الأب القائد" لا يريد تحريره، والنتيجة: لا مناص من العبودية.
عندما بدأت أميل إلى العلمانية وأقرأ عن مجتمعات سبقتنا حقوقاً وواجبات، وكذلك في التطوّر الثقافي والعلمي والتكنولوجي ومستواها المعيشي، اقتنعت أن من يسمّي نفسه "الأب القائد" ما هو إلا دجال، وأن الوقائع والحقائق عبر التاريخ تقلب القول وتعيده إلى موقعه الصحيح: مواطن حر يعني وطناً حراً. وقد استطاع المواطنون الأحرار عبر التاريخ أن يخلقوا وطناً "بلداً" حراً، في حين لم يستطع المواطنون العبيد الراضخون لعبوديتهم أن يخلقوا ولا أن يصونوا وطناً "بلداً" حراً.
لاحقاً قرأت تعريفاً للوطنية يدين حافظ الأسد، فارتحت للأمر كثيراً. ملخّص التعريف "إن الوطنية تعني تحقيق الاستقلال الناجز سياسياً واقتصادياً عن الإمبريالية". ولأن الأسد لم يحقق هذا الاستقلال فهو غير وطني. ولأنني ضدّ طغيان الأسد، فقد انسقت وراء هذا التعريف الذي تبين لي مع الوقت أنه تعريف ينطوي على قصور ونقص وربما دوغمائية، إضافة إلى وقوعه في ربقة الفكر السوفييتي في تلك الفترة، رغم أني كنت أنتمي حينها إلى حزب له ملاحظات وانتقادات كثيرة على النظام السوفييتي.
كانت صفة "وطنيّ" في تلك الأيام، تنطوي على أبعاد نضالية إيجابية بإطلاق. كان يكفي أن تقول إن شخصاً أو حزباً أو نظاماً ما وطنيّ أو لا وطني، ليكون حكم القيمة بشأنهم جاهزاً بالمعنى الإيجابي أو السلبي.
منذ قرابة ثلاثين عاماً تغيرت رؤيتي للأمور. عدت إلى ما هو أقرب إلى فطرتي. الإنساني أرقى وأعلى من الوطني. والتجارة بمفهوم الوطن والوطنية صارت مفضوحة بالنسبة لي. كان الجرح الفلسطيني تجارة رابحة لتجّار السياسة والطغاة الذين ركبوا شعوبهم تحت هذه اليافطة. الحكام القومجيون العرب هم أكثر من تاجروا بفلسطين، إذ أعلنوا "قولاً" أنها القضية المركزية للوطن العربي الكبير، وبالتالي صارت الوطنية متمحورة حول فلسطين كشعار، في حين عانى الفلسطينيون الويلات على أيدي أؤلئك القومجيين.
لقد احتاج الأمر إلى اضطهادات وسجون ومجازر وخيبات كثيرة لحقت بالفلسطينيين على أيدي أنظمة تدعي الوطنية، لأكتشف بعدها أن هتلر كان وطنياً ولكنه ليس إنسانياً، وكذلك موسوليني وبول بوت والأسد وكيم جونغ أون وأبوه، إلى آخر سلسلة الطغاة. لأن الأمر يتعلق بأي زاوية يُنظر منها إلى الوطني وما هو السلوك المترتب على هذا الأساس، وما طبيعة انعكاسه لا على أنصار الوطنية فحسب، بل على المواطنين الذين انقرضوا بانقراض حقوقهم وواجباتهم.
صار من البداهات بالنسبة لي، أن لا وطن بدون مواطنين، والعكس صحيح.
اقرأ أيضا: ملاحظتـان عن "مسألة فلسطين" والسلام"