عندما يكون هناك يسار عصي على ممارسة النقد الذاتي، وفي ذات الوقت لا يمل الحديث اللفظي طبعا عن ضرورة المراجعة، فكيف لهذا اليسار ان يعترف بالخطأ، وبمسؤوليته عن الخطأ، بل كيف يقوم بإصلاح الخطأ؟
بل إن السؤال الجارح كيف بإمكان اليسار هذا أن يمارس الصح إن لم يقبض على رأس الخطأ؟ إنه لا يدرك أن قضيتنا وأوضاعنا وحركتنا الوطنية بكل مسمياتها تعيش مأزقا خانقا يتطلب من كل وطني مخلص إعادة النظر في كافة البرامج والرؤى السابقة التي أوصلتنا إلى هذا المأزق الذي يعني بصراحة شديدة وصولنا إلى حالة قصوى من العطب في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية وفكرها السياسي، فالمأزق حالة عطب أو فشل أوهزيمة حادة أعلى من الحالة التي يعبر عنها مفهوم الأزمة.
في الأزمة خلل يقبل تصحيحاً أو تداركاً، وحتى إن فشل التصحيح، قد تعيد الأزمة إنتاج نفسها. وهذا مما ليس ينطبق على المأزق الذي يعني الانسداد الذي لا يقبل تصويباً إلا بالخروج الكلي عن المسار الذي خيض فيه وقاده في المطاف الأخير إلى المأزق.
وبالتالي حين يصل فكر ما إلى مأزق، فإن العَوْدَ عنه لا يكون بغير تغيير المقدمات والمنطلقات التي أفضت به إلى ذلك المأزق، ولا سبيل إلى خروج الفكر السياسي من انسداد طريقه أو من مأزقه غير خروجه من ذات الطريق التي أخذته إلى النهاية المقفلة، وعدم نفع عودته عن المقدمات ذاتها التي أسست لذلك المسار المسدود.
فالفكر السياسي الفلسطيني تعرض منذ ما قبل أوسلو لمظاهر متنوعة من الأزمات وصولا إلى الأزمة الأكبر، وأعني بها اتفاق أوسلو التي راكمت مزيدا من الأزمات أودت بشعبنا وقواه السياسية والمجتمعية إلى المأزق الحاد الراهن، الذي لا يبدو أننا -كقوى سياسية- نستطيع الخروج منه بعد أن تلاشت فكرة الدولة المستقلة كاملة السيادة ، وبعد أن بات المقرر الخارجي: الأميركي والصهيوني والعربي الرسمي والإقليمي والدولي متحكما رئيسيا في حاضرنا ومستقبلنا المنظور.
والمأزق هذا هو مأزق المشروع الوطني الفلسطيني نفسه: المشروع الذي بدأ قبل أكثر من خمسين عاماً على الأقل كمشروع تحرير لوطن اغتصب، وتراجع أو تقزم عند مشروع سلطة حكم ذاتي محدود في اطار أوهام حل الدولتين! ولسنا نحتاج إلى كبير شرح لبيان أن موطن المعضلة في هذا المأزق هي فكرة الدولة التي تحولت الى مقدمة فكرية سياسية جديدة، في الوعي السياسي الفلسطيني، بديلاً من فكرة الوطن!
ثم تحولت الفكرة أو تقزمت إلى سلطة سرعان ما فسدت وهبطت وخيبت الآمال... فانفجر الصراع عليها وصولا إلى لحظة الانقسام حزيران/يونيو 2007 حيث مسخت فكرة المشروع الوطني لتصبح صراعا على السلطة والمصالح بين فتح وحماس، وتم تغييب فكرة الوطن وأسدل الستار على فكرة الدولة بعد انقسام السلطة... كما تم تفكيك وانقسام مفهوم الهوية الوطنية إلى هويتين متضادتين وطنية هابطة تقابلها هوية إسلاموية تدعو للخلافة لا مستقبل لها.... وبات لدينا اليوم مجتمع في غزة وآخر في الضفة الغربية وآخر في مخيمات المنافي وآخر في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948!
وضاعت الأفكار التوحيدية الجامعة لشعبنا لحساب الصراع بين قطبي الانقسام في ظل إحباط ويأس وانفضاض قطاعات واسعة من شعبنا عن النضال الوطني لحساب لقمة العيش والقضايا المطلبية الصغيرة (البحث عن عمل في الداخل أو الهجرة رغم مخاطر الموت في الخارج والبحث عن الكرامة والحرية بعد أن سيطر شبح الخوف والاستبداد الداخلي في غزة والضفة، والبحث عن "جرة" الغاز والكهرباء والمياه الصالحة للشرب...إلخ).
وللخروج من هذا المأزق البشع لا بد أن نجيب على سؤال لماذا هزمنا في كل المحطات؟ وبوضوح، الإجابة -مهما كانت مؤلمة- يمكننا بالتأكيد صياغة رؤى استراتيجية وبرامج راهنة وإرادات طليعية وشعبية تتصدى للانقسام وتستعيد الوحدة الوطنية التعددية على أساس ثوابتنا الوطنية الكفيلة باستعادة وحدة شعبنا في الضفة وغزة والشتات و48 واستعادة النظام السياسي الوطني الديمقراطي الفلسطيني الذي يكفل توفير عوامل الصمود والمقاومة وفق رؤية التحرر الوطني والديمقراطي.
(باحث وكاتب فلسطيني/غزة)
اقرأ أيضاً: في نقد ما قد يحدث