في طبيعة الانقسام الفلسطيني

15 اغسطس 2018
+ الخط -
تُغري التجربة الفلسطينية المقارنة بين مرحلتين من الصراع الفلسطيني الداخلي، اختلفتا كل الاختلاف، ليس بفعل الظروف التي سادت في ظل المرحلتين فحسب، بل وبطبيعة القوى المتصارعة. وهما: المرحلة الأولى التي شكلت فيها المعارضة اليسارية القوة الرئيسية في معارضة حركة فتح التي تحكّمت بالقرار الفلسطيني، والثانية، التي شكلت فيها القوى الإسلامية المعارضة الرئيسية لحركة فتح. ويمكن إبداء المقارنات التالية بشأن المعارضتين، اليسارية والإسلامية:
- شكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المعارضة الرئيسية في ظل صعود اليسار الجديد في العالم، وفي المنطقة، في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. وفي الوقت الذي اعتبرت الجبهة نفسها الناطقة والممثلة لليسار الفلسطيني، وجزء من اليسار العربي والعالمي، كانت حركة فتح تعتبر نفسها حركة الشعب الفلسطيني، فلم تتبنَ أيديولوجيا معيّنة، بل اعتبرت نفسها بوصفها حركة شعب قادرة على ضم كل الاتجاهات الأيديولوجية، طالما أنها تنخرط في خدمة فلسطين، فكان فيها المتديّن الذي انتمى إلى "الإخوان المسلمين"، وكان فيها القومي وكان فيها الماركسي... إلخ. مع أفول اليسار وسقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار الدول الاشتراكية، تراجعت المعارضة اليسارية لصالح المعارضة الإسلامية التي استفادت من المد الإسلامي في أواخر السبعينات والثمانينات، فجاءت معارضة "فتح"، هذه المرّة، من الموقع الآخر من مواقع الحركات الإسلامية التي كانت تعتبر أقرب إلى حركة فتح في الاتجاهات السياسية.
- طوال التجربة الفلسطينية خارج الأراضي الفلسطينية كانت المعارضة اليسارية، وبحواضن عربية، هي القادرة على التأثير على القيادة الفلسطينية، بحكم انخراطها في آليات العمل الوطني التي تنخرط فيها حركة فتح. في الوقت الذي غابت الحركات الإسلامية عن تجربة الخارج الفلسطيني، ظهرت مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي نقلت مركز ثقل العملية الوطنية الفلسطينية من الخارج إلى الداخل الفلسطيني.
- ساهمت المعارضة اليسارية في تأسيس المشروع الوطني، عبر مشاركتها في إعادة تشكيل 
منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1968، وصياغة الميثاق الوطني الفلسطيني. وقد كانت شريكا رئيسيا في النضال، من أجل اعتبار منظمة التحرير "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، باعتبار المنظمة الهوية والوطن المؤقت إلى حين تحرير الوطن من الاحتلال. بمعنى آخر، كان المعارضة اليسارية من داخل المشروع الوطني الفلسطيني التي شكلت هي ذاتها واحدة من أركانه، على الرغم من كل الصراع السياسي الذي شهدته الساحة الفلسطينية بين قيادة المنظمة والمعارضة اليسارية. أكثر من ذلك، لطالما شكلت المعارضة اليسارية جزءا من قيادة منظمة التحرير، على الرغم من سيطرة "فتح" بأغلبية على مؤسسات المنظمة. وفي فترات الخلاف الكبرى، جمدت الجبهة الشعبية عضويتها في اللجنة التنفيذية، ولم تعتبر يوما أن منظمة التحرير ليست ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. بينما لم تساهم القوى الإسلامية في تشكيل منظمة التحرير، ولم تعتبرها يوما الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وقد جاءت المعارضة الإسلامية من خارج المشروع الوطني الفلسطيني. بل أكثر من ذلك، هي لا تعتبر أن المشروع الوطني، بصيغته القديمة يمثلها، فهي جاءت، ولها مشروعها الخاص الذي يتناقض مع المشروع الوطني الفلسطيني، كما استقر قبل تصدّرها المعارضة. وتعاملت مع مؤسسات منظمة التحرير بوصفها لا تعبّر عنها، إلا إذا تم اشتراكها فيها، وبالنسبة التي تحدّدها، عند ذلك تعترف بمنظمة التحرير، وإلى اليوم لا تعترف حركة حماس بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
- بحكم الطبيعة الشخصية للأمين العام للجبهة الشعبية ومؤسسها، الراحل جورج حبش، يمكن القول إن الرجل والجبهة الشعبية، باعتبارها معارضة للقيادة الفلسطينية بشكل عام، انتمت إلى ممارسة ما يمكن تسميتها "السياسة المبدئية"، وهي السياسات التي تؤكد على المبادئ والمواقف الجذرية، بوصفها أفضل السياسات للوصول إلى الحقوق الوطنية. بينما اعتمد ياسر عرفات، بحكم طبيعته الشخصية أيضا، وبحكم طبيعة حركة فتح على ممارسة ما يمكن تسميتها "السياسة البراغماتية"، وهي السياسة التي توظف كل شيء من أجل القضية الوطنية، على اعتبار أن 
السياسة قضية متحرّكة، والثبات يضرّ بالقضية الوطنية. لقد جعل هذا التوزّع للأدوار الساحة الفلسطينية ثابتةً في ظل المعارضة اليسارية، المعارضة قابلة ومكتفية بدورها كمعارضة، ولا تريد عمليا أن تصل إلى موقع القيادة المتنفذة، حتى لا تتلوث، على الرغم من أنها عمليا جزء من القيادة. كما أن صيغة التقاسم التي عرفت بنظام الكوتا، حيث لكل فصيل نسبة معينة لا تخلّ بالتوازنات، وتُبقي القرار بيد قيادة "فتح" التي كانت قيادة الجبهة الشعبية تسميها "القيادة المتنفذة". مع الانتقال إلى المعارضة الإسلامية، تم التعامل مع "سياسة براغماتية" من الطبيعة نفسها التي تمارسها حركة فتح، وإن كانت بخطابٍ أكثر جذريةً، لكنه لا يتورّع عن استغلال أي فرصةٍ لتعزيز مواقعه، حتى وصل إليه إلى السلطة، وهذا ما كان في انتخابات المجلس التشريعي أخيرا. حتى أن هذه المعارضة لم تتورّع عن حسم الصراع مع حركة فتح في قطاع غزة عسكريا، كما جرى في الصدامات المسلحة في العام 2007.
لا تُغني هذه الملاحظات السريعة عن الدراسة المعمّقة للتغيرات التي جرت في الساحة الفلسطينية، والتي جعلت طبيعة الصراع، تأخذ منحىً آخر مختلفا عن الذي كان في تجربة الخارج. ولا شك أن وجود سلطة تحقق مكاسب لعب دورا مهما في تأجيج الصراع، لكن الواضح أن طبيعة الصراع الداخلي الفلسطيني بين قوى يسار ويمين أخذت طابعا مختلفا بين قوى إسلامية و"فتح"، بين يمين ويمين إن صح التعبير. كان الأول صراعا داخل المنظمة، بوصفها الحقل السياسي الفلسطيني. وكان الثاني صراعا على الحقل السياسي الفلسطيني، بوصف المنظمة جزءا من هذا الحقل السياسي لا كله.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.