في صعود الدول ونكوصها عندنا

06 فبراير 2016
+ الخط -
يبدو أننا في هذا "الشرق العظيم"، بتنا أكثر ابتلاءً بشتى أنواع الأنظمة والدول التي تحولت بفعل القيم السلبية السائدة محلياً وإقليمياً ودولياً، وغياب القيم الإيجابية، إلى عصابات ومليشيات وقطعان وشلايا طائفية ومذهبية عديدة، فما كدنا نخرج من تحت ظلال الاستعمار الكولونيالي، بعد أن تلقفتنا "أنظمة سايكس بيكو"، حتى بدأت الأنظمة الانقلابية تترى الواحدة بعد الأخرى، إما بأوجه عسكرية أو عائلية أو أسرية، أو حزبية قوموية، أو بأوجهٍ من هيمنة اجتماعية وطبقية، راوحت بين هيمنة الزعيم الفرد ومصالح الفئات المتشاركة في غنيمة السلطة.
وها نحن، أخيراً، بدأنا نعود إلى مبتدأ ومهازل الهيمنة "السايكس بيكوية"، على أيدي "أنظمة الخلافة وأمرائها" الإسلامويين، كما على أيدي الأنظمة الطائفية، بتشكيلاتها المختلفة ومصالحها الأكثر اختلافاً.
من دولة الاستعمار إلى دولة الطبقة، أو الطبقات المتحالفة، مروراً بالدولة العسكرية، وصولاً إلى الدولة الطائفية أو المليشياوية، لم تجد دولة الأمة أو الدولة الأمة مكانها في شرقنا "العظيم" هذا بعد، حتى بتنا وباتت الدولة في بلادنا واجبة الوجود والحضور، عبر آليات الشرعية الدستورية أو الثورية، بديلاً لهذا الهلام المجتمعي والسياسي والفكري والثقافي والأيديولوجي الذي تشكلت وتتشكل منه اليوم، تلك الهياكل والبنى غير الشرعية وغير الدستورية من دول هجينة، لا علاقة لها ولا صلة قرابة بينها من قريبٍ أو من بعيد، بالدولة، ولا بسرديات تشكلها ونشوئها وتطورها، على ما بدت وتبدو "دولة الخلافة" مثلاً، أو دويلات الأمراء والولاة المعينين في مجاهل صحراوات المجتمعات وأدغالها وهوامش الدول القائمة، وحتى تحول بعض الدول العريقة، أو التي كانت دولاً عريقة، إلى دولٍ يتحكم في مقدراتها ومصائرها العسكر والمليشيات الطائفية، وقد ألحقت بها قوى وأحزاب طائفية متمذهبة، أدوات لها على صعد محلية وإقليمية، تستعين بها من أجل فرض نفوذ لها في الفضاء الإقليمي و/أو الدولي، انسياقاً خلف طموحات قوموية وشوفينية وتوسعية ليست بريئة.
مرَّ زمان، والدولة في بلادنا تتراخى وتتفكك، بل ويجري تفتيتها وتقاسمها، حصصاً ومغانم ومزارع وإقطاعيات خاصة، لأسر وعائلات سلطوية، تسلطت على عديد من فئات الشعب التي أحنت رؤوسها خشيةً وخوفاً، ومنها من باعت ذممها وضمائرها، حتى صارت الدولة ماضياً مشتهى، على ما بلغته من تفاهة سلطوييها من زعاماتٍ أسريةٍ مليشياوية الطابع، أو طائفية على شاكلة إقطاع مذهبي وكيل، لقوى إقليمية باتت تتحكم بمفاصل عديدة في الدول الهجينة في المنطقة، على ما صارته الدولة في العراق في أعقاب الاحتلال الأميركي، جرّاء محاصصات الحاكم العسكري بول بريمر. وبعد عدة سنوات عجاف، جرى تسليم رقبة الدولة إلى النظام الإيراني الذي حوّلها بدوره إلى ساحة حرب طائفية.
وعلى ما بلغه وضع الدولة السورية راهناً، بعد مرور خمس سنواتٍ لم يستطع لا الإيراني
بمليشياته المذهبية المتعددة الجنسيات، ولا الروسي بأسلحته وجنرالاته إنقاذها، واستعادة دورٍ لها لصالح تطلعات الشعب السوري وطموحاته، وهي الدولة التي لم تكن، أو لم تقم طوال أكثر من نصف قرن، إلا بأدوار بوليسية قمعية وفئوية شديدة الخصوصية، حفاظاً على ملكية حزب قوموي فاشي، وأسرةٍ ومن لف لفها من أصحاب المصالح القرابية والزبائنية.
أما في ليبيا، فلم يكن حظ الدولة أوفر من حظوظها في كل من سورية والعراق، في مآلات تحللها وتفككها، وإنْ لأسبابٍ مختلفة، لها علاقة بالتنوع والتعدد القبلي، وتضارب المصالح والتطلعات السلطوية لبعضها، واعتقاد هذا البعض بأحقية أن تؤول السلطة له من دون غيره من القبائل والمناطق الجهوية.
وفي اليمن، تحولت الدولة، بعد سنوات "الثورة الربيعية" إلى ساحة للعب الإقليمي على أيدي قوى التحالف الحوثي مع المخلوع علي عبدالله صالح، وبدعم من النظام الإيراني. وفي البال تحويل اليمن، بموقعه الاستراتيجي، إلى مركز للتحكم بطرق النفط العربي، واستجابة للتطلعات التوسعية والطائفية، للنظام المليشيوي الإيراني، وترسمات دوره الإقليمي في المنطقة، وفي البحر الأحمر والخليج العربي.
وفي البقية الباقية من دولنا، فإن محصلة ما يجري اليوم فيها للدولة، وأبرزه، دفعها إلى النكوص والتحلل من أدوارها المفترضة، وتفكيك قواها، والدفع بانقساماتها، واشتداد أوار صراعاتها في الداخل، واسترهان بعضها لقوى إقليمية ودولية، معادية ليس للدولة فقط، بل ولشعبها ولشعوب هذه المنطقة، الأكثر توقاً اليوم لاستعادة حرياتها وكرامتها وحقوقها المغتصبة من أيدي التحالفات السلطوية الحاكمة، والأهلية المهيمنة طائفياً ومذهبياً، من قبيل "دواعش" الجانبين: "دولة الخلافة" من جهة، و"دولة ولاية الفقيه" من جهة أخرى، وفتنهما المتنقلة، وجرادهما المنتشر والموزع، على أكثر من منطقة، وفي قلب دول متعددة.
وحدها دولة الكيان الإسرائيلي، من تجد نفسها في وضعٍ لا تحسد عليه راهناً، وهي ترى إلى "التهديدات الوجودية" وقد تقلصت بنسبٍ عالية، بحسب تصريحات إعلامية لرئيس جهاز المخابرات الخارجية (الموساد) السابق، تامير باردو، حين قال إن "دولة إسرائيل لا تواجه خطراً وجودياً في المرحلة الراهنة"، في ظل ابتعاد المخاطر المستمرة والموروثة من أزمان سابقة، وذلك بفعل انهيار (وتفكك) دول محيطة بفلسطين المحتلة، ممن كان يطلق عليها "دول الطوق"، حيث أصابها الوهن والتفتت الداخلي، بفعل عوامل داخلية، لها علاقة بالانقسامات والتوترات الطائفية والمذهبية، وبدعم ودفع إقليمي ودولي، لا سيما في أعقاب توقيع وبدء تنفيذ الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى الست، حتى بات هذا "المحور التحالفي" وتقاسم النفوذ في ما بين قواه يمتلك اليد الطولى في رسم ملامح للمنطقة، لم تعد تتوافق والمصالح والتطلعات، لا الآنية ولا الاستراتيجية لشعوبها، أما دولها غير المتصالحة أو المتساكنة، فقد باتت في ذمة الغياب والنكوص، ما يجعلنا أكثر احتياجاً لتجاوز عثرات الماضي المتراكمة والمتراكبة، والحاضر بهزائمه المرّة، وللوقوف والتخندق عند نقطة الضرورة القصوى لإحياء الدولة/الأمة، أو دولة الأمة المغيّبة.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.