في سيكولوجية الطغاة

01 فبراير 2015
+ الخط -
وقفتُ مليّاً أمام التعميم الذي يقول إنّ الشعوب هي التي تصنع الطغاة، وإنّ طبيعتها الخضوع، لقائله، غوستاف لوبون، في كتابه (سيكولوجية الجماهير) الصادر قبل عقود. ولم يكن غريباً ظهور محتويات الكتاب بتكرار ممل مع ثورات الربيع العربي. ولكن، ما زال الأكثر إثارة أن يصبح قنديل المحللين، وسراج كل من يريد أن يدلي بدلوه للتحليل عبر الفضائيات والأسافير.
بالإمكان أن نثبت أنّ الانتفاضات استثناء عابر، ونؤكد على أنّ اتجاه الانتفاضة نحو العبودية لحاكم قوي، مثلما حدث في بعض دول الربيع، هو ليس بسبب توق الجماهير إلى القيادة، كما قال لوبون، لأنّ كلاً من الحكام المخلوعين كانوا قادة، وتمتعوا بكاريزما الاستبداد والطغيان، وكانت تهتز لهم جدران دولهم. هؤلاء الذين يتحدث عنهم لوبون هم القلة الخارجة من صميم الدولة العميقة، بأجهزتها ومؤسساتها، فالشعوب التي تتم ممارسة الديكتاتورية عليها يكون جلّ اهتمام الحاكم فيها تركيز أنظار شعبه على شخصه، لو بالإعجاب أو بالانتقاد. الديكتاتور لا يترك أفراد شعبه ينظرون إلى أبعد من شخصه، ويجرهم إليه، كلما ابتعدت أنظارهم، ليروا قصور الأداء في مؤسسات الدولة.
ومن غير تبسيط مخلّ، فمن قام بثورات الربيع العربي الشعوب المعنية كلها، وليس جزءاً فقط منها، كما قال لوبون، فمنهم من شارك فيها بيده أو بلسانه أو بقلبه. أما الفئة القليلة المنضوية تحت جناح الطاغية، أينما وُجد، فهي لم تتعرف على قيمة الحرية، بل تتلذذ بخضوعها وخنوعها. ونجد من هؤلاء من يأسف ويتحسَّر على نهاية النظم المستبدة، ويتجاهل أنَّ هذه الفوضى الحالية انبثقت، مباشرة، من عقودٍ من زمان القمع المنظم. ففي تلك الحقبة، كانت الدول مُوجَّهة فقط بحسب أهواء الحاكم الفرد وأسرته، ومع عدم وجود البنية السياسية
الديمقراطية، جعل نهاية تلك الديكتاتوريات، وكأنّها نهاية للدولة. كما أنّ هناك أسباباً أخرى غير تخاذل الجماهير، تزيد من صعوبة تشكيل حكومة ديمقراطية، وهي غياب مؤسسات الجيش والشرطة والمؤسَّسات الحكومية الفعلية، وخروج هذه بهراواتها وبنادقها ودباباتها من بدلة الجنرالات.
كلما طال عهد الطاغية، واستطال أمده، تعذّر اقتلاعه. والكلام عن كل أنواع الحكم الجاثمة على صدور الناس، الكاتمة أنفاسهم في الوطن العربي وعالمنا الثالثي. الأربعون والثلاثون والعشرون سنة هي في الهم سواء، والظلم واحد. وفي دراما الثورات يبحث المتأمل عن فروق بين الحكام على المستوى الشخصي، ليرى ممّ يتكون هذا النوع من البشر.
استشرى الفساد في عهد نظام زين العابدين بن علي، وكان المحرك الأساسي لثورة الياسمين في تونس. كل شيء كان واضحاً، إلى درجة قرّبت صورة محمد البوعزيري محروقاً، بكل تفاصيلها، من أذهان الناس، فلم يبق ما يُقال. كان فعلاً فجّر الثورة هناك. وبعده، جاءت ثورة مصر، فقالوا إنّه رغماً عن كل شيء، فإن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك كان متواضعاً. ولمّا نضجت ثمار الثورة، وتأهب الناس لقطافها، وجدوا أنّ النظام السابق كان يرعى في الفساد من رأسه، حتى أخمص قدمي تابعي السلطان وبطانته.
يرى الطغاة الذين يصلح نموذجهم لمثال الحكم المطلق للفرد الواحد، حكماً منزهاً عن النقد، أنّ عظمتهم تتسع لهذا الحكم الأبدي. فقد ترفّع القذافي من قبل عن الألقاب، لأنّه كان يرى أن ليس هناك صفة رسمية للقائد الأعظم، فلا هو رئيس دولة كغيره، ولا هو رئيس جمهورية زائلة. بدأ، أولاً، بدور النبي المرسل من عند نفسه، برسالته التي سعى إلى تقديسها في الكتاب المأخوذ من هوامش الكتب الأخرى، من دون تعمق، وهو "الكتاب الأخضر". فهو يخطف نصف الجملة من ذاك الكتاب، ويكملها من بنات أفكاره، من دون رابط موضوعي بين الفكرتين، فخرج الكتاب، وكل ما فيه كلام غير مترابط، ولا يخضع لأي قياس عقلي أو نقدي.
ولأنّ القذافي كان يعيش في أوهامه التي حاكها بنفسه، ولنفسه، فقد نفى ورجاله في بدايات الثورة أي تحركات للثوار. وكذّبوا ما يراه العالم من صور حية، تبث على الهواء مباشرة من موقع الاشتباكات بين شعب ليبيا وجنوده المرتزقة. وما زال في أوهامه يتحرّى الكذب، حتى تمت كتابة كل شيء على لوح مسطور، وهو ألّا رجوع للأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة. ثم قام إعلامه، وبالبيانات الكاذبة نفسها إذاعة خبر مفاده بأنّه استعاد سيطرته على مدن ليبيا من الثوار، ودعا رجاله للاحتفال والرقص على أشلاء الضحايا، لكن الصور الحية كذّبت زعمه، وظلّ على هذه الحال إلى أن انقلب شر منقلب.
وحيث إنّه لم يكن ممكناً غضّ الطرف عن بشاعة الجرائم المرتكبة، بتوالي الطغاة، فإنّه لأمر جدير بالنظر فيما إذا كانت هناك من دعوة للاستفاضة فيما يتعلق بدراسة والبحث في موضوع سيكولوجية الطغاة، وما إذا أصبح هذا الإكراه على دين الطاغية واعتناق ديكتاتوريته هو الديدن لاقتلاع الولاء. وإن لم يكن ذلك، فالدعوة ستكون لاستيعاب الحيل التي يمارسها الطاغية، والتي تساهم في تخدير وعي الجماهير وإبطاء وصولها إلى آفاق الحرية.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.