في زمن مضى

17 ديسمبر 2014

الملك فؤاد وعباس العقاد

+ الخط -
في مصر، عندما انقلب الملك فؤاد على دستور 1923 الذي يحدد صلاحياته، ويجعله يملك رمزياً من دون أن يحكم؛ طرح للمصريين دستور 1930 الملفق، الذي يجعله يملك ويحكم. عارضته القوى السياسية الرئيسة، وفي طليعتها حزب الوفد ذو الشعبية العارمة. وكانت لعباس محمود العقاد، ذي السيرة الزاخرة والإشكالية، تجربته ككاتب يقارع سلطة مستبدة، وقف على رأسها ملك مأفون، أجهز على دستور الشعب، وطفق يعبث بمؤسسات الدولة، ويوزع الوظائف على مريديه المنافقين!
يعنينا في هذه السطور الجزئية المتعلقة بمساحة الرأي التي أُتيحت لكاتب، قبل نحو 85 عاماً، من دون أن يتعرض صاحب القلم والرأي، للتصفية أو الإذابة أو النفي والتشريد وقطع الرزق. وعندما نتأمل، نحن العرب، من الماء إلى الماء، بعض السطور، من سِجال عباس العقاد مع السلطة آنذاك، نتحسّر على حالنا!
يقبض الملك فؤاد على السلطات كافة، ويتمكن. وبدلاً من أن يُهاب ويخشاه الكاتب، فإن الأخير يرصد مواقفه وقراراته، ويُفندها أو يحاكمها على قاعدة الوثيقة الدستورية. ولنأخذ مثالاً ردود أفعال الكاتب على تعيينات الملك أشخاصاً رديئي المستوى، فقيري المواهب والمناقب، في وزارة الخارجية وبعثاتها الديبلوماسية. يكتب العقاد، مذكراً الملك بمادة من دستوره تقول: "إن كل مصروف زائد، غير وارد بالميزانية، أو زائد على التقديرات الواردة بها، يجب أن يأذن به البرلمان، ويجب استئذانه كذلك، كلما أُريد نقل مبلغ من باب إلى آخر، من أبواب الميزانية".
أتباع الحاكم بأمره يردون قائلين، إن المادة 49 تنص على "أن الملك يُعين وزراءه ويُقيلهم، ويُعين الممثلين السياسيين ويُقيلهم أيضاً؛ بناءً على ما يُعرض عليه من وزير الخارجية". ونلاحظ إنهم لا يقولون إن جلالته حرٌ في التصرف، حسب مزاجه السامي. لكن الكاتب يعود ويُذكّر بمادة أخرى، تقول إن على الملك "أن يرتب المصالح العامة، ويولي ويعزل الموظفين، على الوجه المبيّن في القانون"، ثم يقول: هل معنى ذلك أن الموظفين جميعاً يُعينون بأوامر ملكية، كما يُعين السفراء وموظفو السفارات؟ ذلك بمعنى، هل التعيينات في تلك الوظائف، ولكونها دسمة، تكون بأوامر القصر، خلافاً للتعيينات في الجهاز الحكومي؟ ويستطرد العقاد قائلاً بصيغة السؤال: ما هي قيمة المسؤولية الوزارية، إذا كانت سياسة الدولة الخارجية كلها، بعيدة عن سلطة الوزارة، وجزء من أموال الموازنة، مستثنى من رقابة مجلس النواب؟ فالمادة 48 من الدستور تقول "إن الملك يمارس سلطته بواسطة وزرائه".
ليس هذا كل ما جاء في سجال الكاتب مع سلطة الملك، بشأن نقطة التعيينات الديبلوماسية. ويختتم العقاد قائلاً: "تفقد مصر سمعتها وكرامتها، حين تبعث إلى عواصم الدول الأجنبية أناساً عاطلين، يمثلوننا لدى الأمم أسوأ تمثيل، ما يصيب مصر بالأذى لمجرد خدمة أفراد قلائل، لا يبالون أن يضيع على مصر كل ما بذلته من الدماء والأموال، بل كل ما لقيت من الخطوب والأهوال"
أما هجوم الكاتب على رئيس الحكومة، إسماعيل صدقي، فقد كان سهلاً وبلا ضوابط أو محاذير. وعندما قال العقاد، وهو نائب في البرلمان، "إن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في سبيل صيانة الدستور وحمايته"، وكان الحديث يجري عن سلوك الملك، اكتفى رئيس المجلس النيابي بحذف الجملة من المحضر، ولم يشأ فؤاد أن يسجن الكاتب بسبب تلك الجملة، وإن كان أوعز للنيابة بأن ترصد مقالاته اللاحقة، وتدينه بتهمة "العيب في الذات الملكية"، فتسجنه تسعة أشهر، تعلم خلالها اللغة الإنجليزية، وخرج معافي ينشد من شعره: وكنت جنين السجن تسعة أشهر/ وهآنذا في ساحة الخُلد أولد!
هل يقوى كاتب عربي، اليوم، على هجاء رأس السلطة في بلاده؟ وهل يظفر عرب اليوم برأس سلطةٍ يصبر على كاتب، مثلما صبر فؤاد على العقاد؟ 
دلالات