في ذكرى "من أنتم؟"

19 فبراير 2016
+ الخط -
تمرُّ في حياتنا أحداث وتُقال خلالها عبارات، تبدو للوهلة الأولى ليست ذا بال. لكن، عندما يجري التبصر بها تبدو حاملةً رسائل كثيرة، مخفية في طياتها حقائق، تستحق منا المرور عليها وتذكّرها ودراستها والبحث في أسبابها، لفهم حقيقة قائلها، وخصوصاً حين يكون في موقع السلطة، وفي ظرف تاريخي يعني بلاده وشعبها. من تلك العبارات، كانت عبارة: "من أنتم؟" التي قالها معمر القذافي متعجباً ومستنكراً ومحاولاً فيها إهانة أبناء شعبه الثائر عليه. وبسبب أهمية عبارات كهذه، يجب عدم جعلها تمر، أو ذكرى إطلاقها تمضي من دون تذكّرها، للعبر التي على الجميع استخلاصها منها.
فقبل خمس سنوات، وتحديداً في 22 من فبراير/شباط سنة 2011، وبعد خمسة أيام من اندلاع ثورة الشعب الليبي ضد نظام الرئيس المخلوع معمر القذافي، وقف الأخير على شرفة منزله يلقي خطاباً، يمكن تلخيص كل ما جاء فيه بعبارة السباب التي أطلقها على الثائرين على نظامه، وهي: "من أنتم؟". هذه العبارة التي أصبحت الأشهر في مسار الثورة الليبية جديرة وحدها بجعل الشعب ينتفض ضد حاكمه الذي يطل من عليائه، ليهين شعبه ويحط من قدره ويستصغره من خلالها. عبارة تختصر النظرة الحقيقية إلى الشعب (الرعية) ممن ادعى أنه أخٌ للشعب الليبي، وليس رئيساً أو زعيماً على هذا الشعب. أخٌ أفقر أخوته، وسرق ثروتهم، ووزعها على أبنائه من دونهم، فكان لا بد لهم من قومتهم عليه.
تلخص الدلالات التي تحملها هذه العبارة مدى بعد القذافي عن شعبه، وهو بعد شاقولي. رفع القذافي خلاله من شأن نفسه، ووضعها في سماواتٍ ووسط خيالاتٍ، يرى الجميع منها أقزاماً، في وقت حط فيه من شأن أبناء شعبه، وأفقدهم حتى القدرة أو الحق في النظر إلى الأعلى، حيث هو. فحرم أي حولٍ أو قوة فيهم، حتى لم يبقَ لهم سوى الطاعة، فهو لم يكن يرى في هذا الشعب سوى تابع، يؤتمر بأمره ويسوسه، حسب هواه. فيوجهه تارة نحو أبناء أمته، في قضية وحدة عربيةٍ، هو زعيمها بالضرورة، بينما لم تكن سوى خطب وصراخ على المنابر، استدعاءً لتحققها بالكلام فحسب، لا بمشاريع جدية. ويوجهه تارة تجاه عمقه الأفريقي، طالباً منه إدارة ظهره لقضية الوحدة العربية السابقة، من أجل الوحدة الأفريقية التي يمكن أن يحتمل مشروعها فانتازيات أكثر، وغرائبيات سلوكٍ أعمق، لم تتوفر له خلال مشروع حلمه السابق. فنال بالتفاتته تلك لقب "ملك ملوك أفريقيا" الذي أُضيف إلى غيره من الألقاب، والتي زادت من غروره، وربما زادت من تعرّضه للتهلكة بازدياد بعده الشاقولي ذاك، وتحقيره أبناء شعبه.
من جهة أخرى، في العبارة ملامح استتباب قائلها على أمر إفقاده أبناء شعبه أي قدرة على
الخروج عليه، وهو العارف حجم القمع الذي مارسته أجهزة حكمه بحقهم. ولا يمكن أن يقولها إنسان لإنسان آخر، إلا حين يكون عارفاً باضمحلاله أمامه أو غيابه من الوجود أو انعدام أثره، على أقل تقدير. وهو ما كان عليه أمر القذافي الذي تسلط وعائلته على أبناء شعبه، فحرمهم، في البداية، من التمتع بثروة بلادهم، وأغدق، هو وأبناؤه، على الآخرين منها من دون حساب. وحرمهم بعدها حرية التعبير، وحق الحلم بالعيش في دولةٍ طبيعية، أسوة بجميع الدول المجاورة أو البعيدة.
يَعرِف القذافي أنه خلال حكمه الذي استمر 42 عاماً، لم يبنِ للشعب الليبي مجتمعاً قائماً بحد ذاته، يحكمه قانون ويوجهه دستور وتديره مؤسسات، هي بمجموعها ضامنة لاستقراره في أزماتٍ قد تلم به. وهو لذلك قال جملته الأخرى في الخطاب نفسه بحق شعبه مهدداً: "قد تندمون يوم لا ينفع الندم، والذي بيته من الزجاج لا يرجم الناس بالحجارة. من أنتم؟". وربما كانت هذه الجملة أصدق ما قال القذافي، وعبَّر عما في داخله طوال حياته. أفليس هو باني ذلك البيت من زجاج، وعلى الرمال؟ فقد حَرَّمَ الأحزاب، والنقابات، وبطبيعة الحال بقية مؤسسات المجتمع المدني. وهذه هي ما يُعوَّل عليها عادةً، إن أصابت البلاد أزمات ونكسات، فما بالك بالحرب التي عصفت بليبيا بعد إطاحة نظامها. ولذلك، بقي الشعب الليبي فريسة تجاذب أطرافٍ طرأت على البلاد خلالها، وسهلت انقياد أبنائه لهذه الجهة أو تلك، بعيداً عن ثوابت تخوله التفكير قبل الانحياز لطرفٍ ما، وجعل مصلحة البلاد وحقوق مواطنيها الركيزة الأساسية التي ينطلق منها الجميع.
علاوة على ذلك، وهنا النقطة الأخطر في فترة حكم القذافي، وهي افتقار البلاد لدستور على مدى أربعين عاماً. فحين جاء القذافي إلى الحكم عبر انقلابه سنة 1969، ألغى الدستور الذي كان معمولاً به في البلاد، والذي صدر سنة 1951، واعتمد بديلاً عنه فيما بعد، كتابه الأخضر. فسادت إثر ذلك حالة فوضى قضائية، تضاربت خلالها القوانين، وتناقضت مع الحقوق الأساسية للإنسان، وطغى قانون أجهزة الأمن. وحين انهارت هذه الأجهزة، لم يكن في البلاد دستور ضامن لاجتماع الكل عليه، ليتصرفوا وفقه، فكانت الفوضى.
تذكّر هذه العبارة، وتذكّر مناسبتها، كفيلان بإعطاء أبناء الشعب الليبي وممثليهم الذين توافقوا، هذه الأيام، على حكومة وحدة وطنية، تنقذ البلاد وتنهي فترة صراع طويلة بين أبنائها، المزيد من الإصرار على بناء مجتمع قوي يحكمه دستور وقوانين تعطيه المنعة في وجه سلطات تسلطية، أو أفراد يطمعون بعودة حكم شبيه بالذي بادَ منذ سنوات.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.