هكذا، إلى أن يعيد منير بشير اللحن إلى التحليق من جديد، كأن العصفور وجد طريقه في السماء. في النهاية، يعود في اللحن ليرسم لحظة العصفور الأخيرة؛ كأنه خط النهاية أو لحظة الموت، أو الهبوط على الشجرة.
ثمة ألحان تحتاج إلى تقنية عالية وتدريب لساعات وأيام، وتظل التقنية فيها لا تطغى على جمالية النغم، والعكس صحيح، هناك ألحان لا يميزها غير التقنية، يظل الإبهار يسيطر على الروح. مثلاً، مقطوعة كابريس على ذات المقام للموسيقار جميل بشير، تغلب عليها التقنية، وتحديداً في الجزء الثاني؛ حيث يتغلب على روح اللحن صوت يقع بين آلتي السنطور والبيانو، ربما يرجع ذلك إلى معرفة جميل الموسيقية وعزفه الكمان والعود. وكدليل آخر على أن أسماء الألحان تليق بروح وقصة اللحن، أي المكان أو الحدث؛ فسنجد لحن "أندلس"، لجميل بشير أيضاً، وهي مقطوعة تدور فيها روح آلة الجيتار الأندلسي، ويستعيد فيها المؤلّف آثار حقبة تاريخية في مقطوعة موسيقية.
أما حين تتغلب الجمالية على التقنية؛ فربما نذكر مقطوعة "سولاف" للموسيقار غانم حداد. حين نستمع إلى اللحن، نشعر أن العراقة تختبئ داخل تفاصيل التقنية في المقطوعة، وما ساعد على ذلك أن حداد اختار مقام البيات، وهو مقام أميل إلى الفرح. قال فيه الشاعر: "عمّت فرحة بين البيوت بيتا بات فيه نغم البيات أميراً… نال ابتهاجاً كل من يسمعه، حتى الياسمين زاد منه عطوراً".
اللحن بين قصته ومقامه
يبدو عموماً أن تسمية الألحان تخضع لطبيعة وحركة النغم في العقل كتفكير يتحول إلى صوت له إحساس؛ فيطبق أداءً على العود، ويعتبر ذلك روح القصة التي تحيط باللحن، فغالباً ما يعرف اللحن بقصته والإحساس بها، ولذلك نجد أن كثيراً من الألحان عند تكرار عزفها من قبل فنانين، أو إضافة بعض الجماليات أو أداءها بشكل تقني مختلف، تتغير روحها؛ فإما تزداد جمالاً، أو ركاكة، وأهم مثال يذكر في هذا السياق، تقاسيم أغنية "الربيع"، لفريد الأطرش، التي يجيدها غالبية عازفي العود، فإن أدّاها عازف أفضل من آخر؛ فإن ذلك يعني أن هناك تخاطر في القصة وإحساس بروح النغم في ذهن المؤدي، كما أن للمقامات الموسيقية وطريقة اختيارها دوراً لملائمة روح القصة، وجعل اللحن يتفوق، خصوصاً حين تتلاقح الكلمات مع النغم، ويدلل على ذلك شرح الشيخ الموصلي لطبائع المقامات؛ حيث قال إن الراست والبوسليك والشهناز طبعها ناري والحجازي والعراق طبعهما هوائي، وزاد على ذلك بقوله، مثلاً، إذا كنت في مجلس العلماء؛ فلتكن قراءتك على العشاق والعراق والحجازي، لأنهم في غاية الحرارة في علومهم. لهذا السبب، فإن تمكن الملحن معرفياً في الموسيقى وتقنياً في العزف، وفهمه للطاقة في روح القصة والأجواء المحيطه بها عبر حركة كثيفة داخل عقله وانسيابية في أداءئه، سيمكنه من الإبداع في اللحن، ولكن في حال كان اللحن ضعيفاً، ربما نجد أدوات وعوامل أخرى تضفي عليه جمالية، مثل ذائقة أو حماسة الجمهور، أو دور المايسترو في استنهاض روح اللحن والترويج لقصته وبعض خفايا اللحن الجمالية.
مع ذلك، ثمة إشكال في مسألة التلحين بين الماضي والحاضر؛ فأدوات الفن وماكيناته تغيرت مع تطور نظام السوق واستخدام الرقمي والإلكتروني، وأثر الألحان ترك انطباعات جديدة في ذوق الجمهور، وانعكس بالتالي على الألحان في حركة عقل الملحنين، واكتملت دائرة الزمن الذي نعيش فيه؛ فلحن الحاضر بالضرورة يخضع أولاً لسوق الفن ورأس المال، في حين أن إبداعات الماضي كانت تنحاز لجمالية الألحان وللإبداع، عندما كانت تدور غالبية المشاكل حول الوقت الذي يستغرقه الملحن لإنتاج أغنية مثل "للصبر حدود" لمحمد الموجي، ويقال إن لها قصة؛ حيث حكم عليه أحد القضاة بالتلحين، فقال له: "افتح رأسي وأخرج اللحن!".
يذكر بعض العازفين الذين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية هذه القصة في إشارة إلى أهمية الفكرة ومزاج الملحن أو اقتناص لحظة التلحين. أما الحاضر فصار غالبيته تركيب، وهنا تغلب عمق الماضي على استعراض الحاضر. وشغف الماضي على ركود وسطحية الحاضر، فحتى تكرار النغم داخل المقطوعة في الماضي، كان فيه من الخفة والبساطة ما لا يصيب بالضجر والعصبية، في حين أن تكرار النغم الآن، فيه من التقليد والصخب ما قد يتطور إلى فوضى فنية إذا لم يكن الفنان أو الملحن على معرفة دقيقة فيما يصنعه وكيف يوظفه، حيث نجح بعض الفنانيين في ابتكار لحظات التكرار والسلطنة عبر توظيفها داخل قصص لها أهمية أصلاً، حيث يولي الجمهور الإصغاء إلى القصة بكامل تفاصيلها، مثل فرقة "السبعة وأربعين".
الألحان والمناسبات
لقد أجرت مجلة المنتدى الفلسطينية الحكومية عام 1946 حواراً مع عدد من الملحنين، قد يكون الحوار العربي الوحيد مع ملحنين طرح عليهم سؤالاً حول أثر المناسبات في التلحين وتحديداً العيد، أو هل يمكن للملحن أن يستجيب لطقس المناسبات فيلحن لها؟
لقد تجنب الموسيقار والملحن الفلسطيني اللبناني، حليم الرومي، ربط السعادة بالعيد فقط، وبالتالي فإن أي لحن فيه روح السعادة لا يجب أن يرتبط بالمناسبة أكثر من ارتباطه وإرضائه لروح الناس. لكن الموسيقي الفلسطيني وجيه بدرخان، الذي كان له تجربة فنية مهمة في القاهرة حيث توفي، اعتبر أن السؤال عن التلحين للعيد فيه حرج؛ لأن اللحن يأتي في غير موعد حتى وإن كان العيد يوحي بالتلحين. يحاول بدرخان تجاوز العيد كطقس سنوي، لأن أي لحن للعيد سيكون طافحاً بالمبالغة في الفرح، ومع ذلك فقد طلبت منه الإذاعة تقديم لحن للعيد، وقال إنه ظل يؤجل الأمر إلى صباح يوم العيد حتى استمع إلى صوت التهاليل والتكبيرات، وقام بتلحين قطعة موسيقية. بحثنا عنها ولم نجد لها تسجيل.
أما الملحن والمغني المصري عباس البليدي، فإنه كان يرى أن الموسيقي يجب أن يكون لديه دافع للتلحين، وأن التأليف الموسيقي لا يكون موفقاً إلا إذا كان مصدره الشعور بقدوم العيد، بل كان أهم ما ذكره البليدي أن الموسيقي يجب أن يشعر أنه على صلة مباشرة مع الشعب حتى ينتج اللحن، لكن الملحن والعازف يحيى السعودي، وهو فلسطيني مقدسي الأصل، وله مجموعة موشحات رصينة ومبدعة في ركوزها، مثل موشح "يا ظالمني حقاً" من مقام حجاز كار كرد، وبعض الموشحات غير متوفرة، قال إنه لحن "وُلد الهدى" للعيد، وأن أكثر ألحانه توفيقاً هي التي وضعها في العيد، وأن هناك دافعاً خفياً وشعوراً بالبهجة يدعوه إلى التلحين، أما فاضل الشوا فكان رأيه ضبابياً، وأوجز رأيه في اعتبار أن القطعة الموسيقية تعبر نفسها إذا كانت محزنة أو مفرحة.