في حاجة لبنان إلى نظام سياسي بديل ومواطنة جديدة
مرجَّح أن يشكل انفجار مرفأ بيروت الذي أحدث صدمة تاريخية بكل المقاييس، مقدمة لتفجير المنظومة السياسية التي أطبقت على لبنان عقوداً، وحولته إلى وطن مشلول الإرادة، ومعطوب على غير مستوى. كذلك يحتمل أن يكون الانفجار المأساوي غير المسبوق بداية التأسيس الفعلي لانبثاق مقاربة سياسية بديلة ودولة مختلفة. ولم لا؟ اعتماد قوانين ووثيقة دستورية جديدة، تتجاوز مخلفات الماضي، وتدفن في مقبرته بنيةً سياسيةً يصعب، في ظل استمرار بقائها، قيام مؤسسات ديمقراطية وممارسات سليمة تحتكم إلى القانون، وتشتغل وفق مقتضياته، في إطار دولة مدنية عصرية وطنية وموحدة، لا تؤمن بمعايير اللون والعرق والمذهب والدين والطائفة والعصابة، حيث يتعذّر، مع وجود هذه المعايير، بناء الاقتصاد المنتج والناجع، ونهوض المؤسسات التي تشتغل في جو من الشفافية والمسؤولية، والمجتمع المستقر والمتماسك والوطن المتضامن.
الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية، في بيروت خصوصاً، بعد الانفجار الهائل يوم 4 أغسطس/ آب الحالي، لمحاسبة المسؤولين الذين قد تكون لهم صلة مباشرة، أو غير مباشرة، مع وقوع الكارثة، والمطالبات بتشكيل حكومة حيادية، والتأسيس لرحيل المنظومة السياسية الحالية، والانخراط في مظاهرات ومواجهات وأشكال غير تقليدية من الاحتجاج، هذه كلها تعكس قناعةً جذريةً، مشتركة بين أوسع فئات المجتمع، ودرجة متقدمة من الوعي الشعبي. واليوم عندما يتدفق لبنانيون في حشود صوب الشوارع، ويحتلون مرافق عمومية، ويقتحمون الوزارات، فهم يفعلون ذلك للتعبير، بطريقتهم، عن تطلع جامح إلى تحقيق حزمة أحلام ومطالب مشروعة، تتمثل خصوصاً بصياغة شكل جديد للوطن. وطن يكتسي طابعاً مدنياً، وينهض على المساواة بين جميع اللبنانيين الذين يجب أن ينعموا بالمواطنة الكاملة، وتحكمُه القواعد الديمقراطية، وتؤطّره الرهانات المرتبطة بقيام نظام سياسي متحرّر من العوائق والإكراهات الطائفية والمذهبية التي كانت سبباً في إنتاج كوارث وآفاتٍ أصابت المجتمع اللبناني بكل أطيافه، بالإحباط واليأس وعدم الثقة في طبقةٍ سياسيةٍ فاسدةٍ ومرتشية، وفي مؤسساتٍ أفرزت، لدى جزءٍ لا يستهان به من اللبنانيين، ثقافة الكفر بالوطن وبمؤسساته وسياسييه ونخبه، خصوصاً أن هذه الطبقة تدربت جيداً على اغتيال العدالة والمساواة الاجتماعية والسياسية، والتنمية والديمقراطية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والوحدة الوطنية.
ما يثير القلق والشكوك إزاء مستقبل لبنان أن منظومة الفساد متجذّرة ومتغلغلة في مفاصل كل المؤسسات
كان بمقدور لبنان، بحكم تاريخه المتميز وطبيعة مكوناته الاجتماعية وموقعه الجغرافي وريادته الثقافية والفكرية والإعلامية، أن يتحوّل إلى نموذج ديمقراطي، يُحتذى به في المنطقة العربية، وقوة سياسية ذات وزن وصدقية وتأثير، لو اقتنع رموز المذاهب وأقطابها وزعماء الطوائف الدينية والسياسية والمافيات الاقتصادية باقتراح خطة لعلاج أوجاع الوطن واختلالاته، من خلال لملمة كل المكونات الطائفية والمذهبية والسياسية والمدنية، وتجميعها في بنية وطنية منسجمة ومتضامنة ومتسامحة ومجتمعة حول أهداف موحدة ورهانات مشتركة. ولو طُبِّقَت هذه المقاربة، لكانت كفيلةً بتوفير شروط بزوغ فجر نظام ديمقراطي، خارج حسابات المحاصصة والريع والامتيازات التي ألفتها الطبقة السياسية المشار إليها بالفساد وعدم الكفاءة والنهب والرشوة والزبونية. وكان بمقدور هذه المقاربة أيضاً أن تلغي خطاب التهديد والقوة والعنف والانتقام الذي تشهره هذه الكتلة أو تلك، في ما يشبه استعراضاً للقوة، وإظهاراً لمدى استعدادها للبطش بمن يقف في وجه نزواتها الشرهة، وأجندتها الملتبسة.
طبقة حاكمة تدربت جيداً على اغتيال العدالة والمساواة الاجتماعية والسياسية، والتنمية والديمقراطية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والوحدة الوطنية
من هنا يُستخلص أن عملية تفكيك المنظومة السياسية السائدة في لبنان تُعَدّ تمريناً في غاية الصعوبة، وامتحاناً معقداً قد يستغرق بعض الوقت، لأن أي عملية انتقال وتحول، تجابهها جيوب مقاومة ورفض للواقع الجديد. كذلك فإنها قد تفرز تداعياتٍ في شتى المجالات، وآثاراً جانبية، غالباً ما تكون مصحوبةً بآلام، إلا أن الالتفاف حول مشروع الوطن الديمقراطي، تحت لواء العلم الوطني، رمز الوحدة والتماسك، وتوحيد اللغات والخطابات، ونبذ كل أشكال التعصب والانتقام، من شأنه أن يحوّل كارثة انفجار مرفأ بيروت إلى لحظة وطنية حاسمة ومفصلية، ستقرّر مصير شعب ودولة بكل مكوناتها ومؤسساتها وفاعليها. وهذه هي البداية الحقيقية لانبثاق الديمقراطية الحقة، والدولة العقلانية التي تستند إلى القانون والمؤسسات والحقوق والواجبات. وعلى أنقاض الانفجار الكبير وما ستسفر عنه التحقيقات لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات، ستُبنى المصالحات الحقيقية والتعايش الفعلي بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني.
عملية تفكيك المنظومة السياسية السائدة في لبنان تُعَدّ تمريناً في غاية الصعوبة، وامتحاناً معقداً قد يستغرق بعض الوقت
لكن ما يثير القلق والشكوك إزاء مستقبل لبنان، أن منظومة الفساد متجذّرة ومتغلغلة في مفاصل كل المؤسسات وشرايين الأنشطة الاقتصادية والمالية والخدمية، إلى درجةٍ أصبحت معها هذه المنظومة أقوى من الدولة، كما أكد ذلك حسّان دياب عند تقديم استقالة حكومته، وقد قال إن الدولة مكبلة بهذه المنظومة، ولا تستطيع مواجهتها. ويعكس هذا الاعتراف على لسان رئيس الحكومة المستقيل حالة من الاحتباس السياسي المزمن في لبنان، ما يطرح تحديات جسيمة أمام أي مشروع إصلاحي يتوخّى التأسيس لمرحلة جديدة على مختلف المستويات. ويشير صراحة إلى هشاشة الدولة، ومحدودية فعالية الحكومات، وضيق مساحة الصلاحيات المخولة لها، وهامش المناورة المتاح أمام منظومة راكمت تجارب وخبرات في الاستفراد بالقرار السياسي، وبسط سلطتها وسطوتها على خيرات البلد وموارده، لتحكم السيطرة على النسيج الاقتصادي والمالي والأمني، وترهن حاضر لبنان ومستقبله لتجاذبات وأجندة متصارعة ومتنافسة فيما بينها بالمنطق الجيوسياسي.
مؤكّد أن الأزمة في لبنان سياسية بامتياز، وهي التي تقف تاريخياً وفعلياً وراء كل المشكلات والآفات التي عصفت بالبلد. وعلى خلفية زلزال مرفأ بيروت، متعدّد الأبعاد والرسائل، يظهر جلياً أن مختلف التطورات والمؤشرات تصبّ في منحى تكريس احتمال عدم اتفاق القوى السياسية التي يتكون منها المجلس النيابي على برنامج عمل انتقالي موحد، لإنقاذ البلد من الانزلاق إلى السيناريو الأسوأ، وخصوصاً في وقتٍ وُضع فيه لبنان تحت المجهر الدولي، وبشكل غير مباشر، تحت الوصاية الدولية، وكأن القوى السياسية الداخلية تحولت إلى أدواتٍ يتحكم فيها ويبرمجها لاعبون دوليون وإقليميون لا يتردّدون في القول إن لبنان لن يكون وحده في مواجهة تداعيات كارثة المرفأ، وإن أمن لبنان من أمن المنطقة.
الأزمة لن تحلها حكومة وحدة وطنية، لأن هذه تعني العودة إلى إنتاج المنظومة نفسها
ومهما تعدّدت السيناريوهات والتحليلات، فالأولوية حالياً تُعطى للصيغة التي ستكون عليها الحكومة المقبلة، هل هي حكومة وحدة وطنية أم حيادية، وما استراتيجية عملها؟ أما أن الرعاة الدوليين، وفي طليعتهم فرنسا، صاروا يرسمون معالم المستقبل السياسي للبنان، فهذا يدل على أن تشكيل الحكومة المرتقبة سيتقاطع فيه عاملان، دولي ومحلي. هناك من يرى أن سعد الحريري الأوفر حظاً لقيادة الحكومة المرتقبة، فأسهمه مرتفعة في بورصة السياسة الداخلية، فهو يحظى ببعض الغطاء الشعبي، والشروط التي طرحها سابقاً، المتمثلة بحكومة حيادية وصلاحيات استثنائية قد لا يتمسك بها حرفياً، لأن ظروف لبنان حالياً تغيرت كثيراً، وصدمة الانفجار تدعو جميع الأطراف إلى تقديم تنازلاتٍ متبادلة. أما النواة الصلبة للحراك، فترى أن الأزمة لن تحلها حكومة وحدة وطنية، لأن هذه تعني، بكل بساطة، العودة إلى إنتاج المنظومة نفسها، والسياسات والتدابير والمشكلات نفسها. ويشدد نشطاء الحراك الشعبي اللبناني على أن المرحلة تقتضي مقاربة سياسية مختلفة، كما أن المراهنة على المجتمع الدولي خيار خاسر، لأنه الذي غطى على المنظومة الطائفية الفاسدة عقوداً. والخيال السياسي مطلوب في التعاطي مع الأزمة اللبنانية، خصوصاً أن المطلب الشعبي الراهن والملحّ يتمثل بإزالة النظام الطائفي، وتفكيك بنياته وشلّ مفاعيله، وتعويضه بنظام وطني ديمقراطي. وقبل ذلك، يقترح النشطاء تشكيل حكومة انتقالية من خارج المنظومة السائدة، مدخلاً لتجاوز أزمة السلطة الحالية.