02 نوفمبر 2024
في ثقافة الاحتجاج
برهن التونسيون على امتداد أيّام الحراك الشعبي لثورة الكرامة (17ديسمبر/كانون أول 2010 ـ 14 يناير/كانون الثاني2011) عن حسّ مدنيّ عال وسلوك حضاريّ راق، فقد تظاهر النّاس وقتها وتضامنوا، وتآلفوا، وتآزروا، واحتجّوا على النّظام البائد بطرق سلميّة لفتت إليها انتباه الملاحظين، وشدّت اهتمام الدّارسين، وتجنّب المحتجّون إيذاء النّاس والإضرار بالمصالح العامّة، أو تعطيل نشاطها، ورفعوا شعارات تنادوا فيها بالشّوق إلى الحرّية المستلَبة والكرامة المصادَرة والعدالة المغيّبة.
وأدّى ذلك النّهج في الاحتجاج السّلمي إلى تعاطف الرّأي العامّ العربي والدولي مع جمهور المحتجّين، مقابل سخط المتابعين للشّأن التونسي على طريقة المخلوع، وأعوانه، في التّعاطي مع الظّاهرة الاحتجاجيّة، إذ قابل الطّاغية صيحات المظلومين بالتّجاهل، واستغاثة المقهورين بالغطرسة والتصلّب، ونداء المستضعفين بكمّ الأفواه، وآل به الأمر إلى سفك دماء الأبرياء، عسى أن يُسْكِتَ أصواتَ النّاس، متوهّما أنّ الرّصاص كفيل بكتم نداء الحرّية، فانقلب عليه الأمر، وفرّ هاربا لا يلوي على شيء، غير سلامته هو وأفراد من عصابته.
وظنّ النّاس، بعد رحيل الدّيكتاتور، أنّ أهل البيت جميعهم سينصرفون إلى ترتيب الشّأن الدّاخلي للبلد، والانتظام ضمن سياق مدنيّ وعقد اجتماعيّ يؤسّس لدولة الحقّ والواجب ومجتمع الحرّية والمسؤوليّة، والمراد هو بناء تونس الغد بأياد وطنيّة، تضع في اعتبارها مصلحة الوطن، أوّلا وآخرا.
لكنّ ما حدث بعد الثورة أنّ بعضهم رأى في الحرّية فرصة للتنصّل من المسؤوليّة، وفي الثّورة مناسبة لإشاعة الفوضى وإثارة النّعرات القبليّة والطائفيّة والجهويّة، وتقديم المصالح الفرديّة والفئويّة على الصّالح العامّ، وقد اتّسعت دائرة الاحتجاجات، هذه الأيّام، لنسمع بإضراب أو اعتصام فئة من المهنيّين أو أعوان الوظيفة العموميّة، أو غيرهم من الذين لم نسمع لهم احتجاجا أو اعتصاما في ستّة عقود مضت، على عهد بورقيبة أو على عهد بن علي، أمّا اليوم، فنحن من إضراب الأطباء والقضاة إلى إضراب الأساتذة والمعلمين، ومن اعتصام البلديّين وأعوان الأمن إلى اعتصام سوّاق التّاكسي، ومن إضراب العاملين في قطاع شركة الميترو الخفيف، إلى العاملين في المطارات وغير ذلك من الإضرابات كثير، وفي مجالات حيويّة شتّى، لا بل عمد قطاع آخر من المحتجّين إلى إغلاق الطّرق واقتحام المؤسّسات الحكوميّة أو الخاصّة، وتجاوز آخرون هذا المدى، وتحلّلوا من كلّ أسباب الاحتجاج الحضاريّ، فعمدوا إلى إغلاق المدارس، وإيقاف إنتاج المصانع، وتعطيل المرافق العامّة...
والأسباب الدّافعة إلى هذه الأشكال من الاحتجاج العنيف منها ما هو مشروع، ومنها ما يدعو إلى الرّيبة والمساءلة في آن، فالظاهر أنّ بعضهم قد ركب الثّورة لإثارة الفتنة وتصفية الحساب مع زيد أو عمرو، في حين عمل آخرون على إشاعة الفوضى، حتّى تعتري النّاس حسرة على أمن ظنّوا أنّ الدكتاتوريّة كانت تُؤمّنه. وبذلك، غلبت الحسابات الفرديّة والفئويّة والجهوية على الصّالح العامّ، وتقلّص هامش الإحساس بالوطنيّة ليُفسح المجال وسيعاً لحسابات آنيّة أو طبقـيّة أو حزبيّة ضيّقة، تنفع فريقا من النّاس دون البقيّة.
والرّأي عندي أنّ هذه الحالة لم تكن لتتّسع، وتتّصل، وتستمرّ لو اضطلع المشرفون على الجمعيّات المدنيّة والأحزاب السياسيّة والمنظّمات الحقوقيّة والمديرون لوسائل الإعلام بدورهم الطّليعي في ترشيد النّاس وتأطيرهم وتوجيههم، وبثّ الوعي بأصول الثقافة الاحتجاجيّة فيهم، فقد كان بالإمكان تخصيص حملات للتّثقيف السّياسي، ولتعليم الجماهير آداب الاحتجاج وثقافة المعارضة السّلميّة المسؤولة، فكان بالإمكان تنبيه النّاس إلى أنّ الاحتجاج السلميّ ممكن، وأنّ أساليب الاعتراض على وضع مَا لا تكون بانتحاءٍ نحو العنف بالضّرورة، فبالإمكان مثلا العمل والاحتجاج في آن، بحمل الشّارة الحمراء، وبالإمكان تنظيم وقفات احتجاجيّة أيّام العطل، حتّى لا تقف عجلة الاقتصاد، وحتّى لا تُعطَّل مصالح النّاس، كما بالإمكان الإضراب دقائق محدودة، بدل الكفّ عن العمل أيّاماً، هذا إلى جانب إمكانيّة تكوين هيئات تمثيليّة للمحتجّين تفاوض سلطة الإشراف، وتعبّر عن مطالب النّاس، وتتواصل مع وسائل الإعلام ومع الدّوائر القضائيّة لرفع عرائض المحتجّين ولإنصاف المظلومين.
هذه الأشكال السلميّة في الاحتجاج معتمَدة في الدّول المتقدّمة، وفعّالة في التّعبير عن مشاغل المحتجّين، فهي تحمي المحتجّ، وتلفت انتباه المحتجّ عليه، ولا تتعارض مع الصّالح العامّ، وأحرى بالمشرفين على الأحزاب السياسيّة والجمعيّات المدنيّة نشر الثقافة الاحتجاجيّة الحضاريّة، وتدريب النّاس على توظيفها في أثناء تحرّكاتهم المطلبيّة، لكنّ الظاهر أنّ مكوّنات المجتمع المدني من منظّمات وأحزاب، ما فتئت، هي الأخرى، مشغولة بحساباتها الداخليّة، مهمومة بمطامحها السياسيّة والانتخابيّة، غير آبهة بأنّ نجاح المسار الدّيمقراطي وتأسيس الجمهوريّة الثانية لا يتمّ إلاّ بتكوين مواطن عاقل، فاعل، واع، مسؤول وقادر على البناء، لا على بثّ الفوضى، فالحاجة أكيدة اليوم إلى سواعد بنّاءة وعقول مستنيرة، وإلى ثقافة احتجاجيّة مسؤولة، تضع في الاعتبار الصالح العام، وإلاّ فستأخذ الناس منزلقاتُ الفوضى الخلاّقة من حيث يدرون، ومن حيث لا يدرون.