في تونس نرحّب بالأزلام

13 أكتوبر 2014

تونسيون يعملون لمصلحة حملة قائمة انتخابية (4أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

تمنحنا السياسة وتقلّباتها فرصة اختبار السياقات التي تجري فيها الوقائع، وإظهار ما فيها من التداخل والتجانس والتنافر. فلا يمكن الوصول إلى فهم سليم للأحداث التي نعيشها، أو نتعايش معها، إلاّ بقراءة الظروف التي نشأت فيها، لكي لا نتسرّع في حسم بعض المسائل، بسبب مغالطات تحفل بها للتشويش على المتلقّي وتضليله، كما يحدث في هذه الأيام، مع انطلاقة الحملة الانتخابيّة في تونس.

وليس التضليل، أو الخداع، في الحملات الانتخابيّة بدعة تونسيّة، فجلّ المنتخَبين في البلدان العريقة ديمقراطيّاً، يثبتون، بعد الوصول إلى الحكم، أنّهم خدعوا شعوبهم، بتنكّرهم للوعود التي قطعوها على أنفسهم، وشروعهم في تنفيذ سياساتٍ، تخالف ما أعلنوه من البرامج والنيات الحسنة.

تبدو المعادلة التونسيّة مختلفة، ولعلّها فريدة من نوعها، باعتبار أنّ ما تعلنه بعض الأحزاب من المواقف والنيات يثير استغراباً كثيراً، ويحتمل التحسين والتقبيح. والسياسة لا تستقيم إلا بشيء من هذا وشيء من ذاك. وما يُقبّح اليوم قد يُستحسن غداً. وفي تراثنا مؤلّفات مفيدة في هذا المجال، لعلّ أهمّها كتاب "تحسين القبيح وتقبيح الحسن" للحسن الثعالبي، ومن أبوابه الطريفة "باب تحسين الإثم والترخيص في الذنوب".

ويبدو أنّ حركة النهضة ولجت ذلك الباب، للعمل بما فيه من الحيل الفقهيّة، فهي تسير، منذ فترة، بخطى ثابتة، نحو تطبيع كامل مع النظام القديم. وقد عبّر راشد الغنوشي، أخيراً، في تصريح نشرته "رويترز" عن استعداد حركته، النهضة، لحكم البلاد بشراكة واسعة لا تستثني "الأزلام"، فقال: "إنّ حركته مستعدّة للعمل ضمن حكومة ائتلافٍ، تضمّ "نداء تونس"، وحتى الأحزاب التي يقودها مسؤولون بارزون في نظام بن علي"... ولتحسين ما قد يظهر قبيحاً لدى معارضي ذلك التطبيع (وكثيرون منهم ينتمون إلى حركة النهضة)، أضاف الغنوشي: "لن نواجه الإقصاء بإقصاء ... أصبحنا حركة أكثر واقعيّة وقدرة على صنع الوفاق مع خصومنا، أصبحنا جزءاً من الدولة، ونفهم جيّداً مشكلات البلاد وأولوياتها".

وهكذا، تتباين تصريحات الإسلاميين في تونس، بحسب السياقات التي يفرضها الواقع الراهن، محليّاً ودوليّاً. ولا يبدو أنّهم يشعرون بالحرج من تراكمات متناقضة يحفل بها خطابهم، بمقارنة بسيطة بين الأمس واليوم. فقد تطوّر ذلك الخطاب من مطالباتٍ سابقة بضرورة إقصاء الذين عملوا مع الرئيس المخلوع، وعزلهم عن الحياة السياسيّة، ومحاسبة من تورّط منهم في جرائم بيّنة، إلى حتميّة العمل معهم في حكومة وحدة وطنيّة، تسعى إلى إخراج البلاد من أزماتها المتفاقمة. وبين هذين المبدأين اللّذين أثارا جدلاً واسعاً، أضافت حركة النهضة رأياً وسطاً، فعبّرت، في وقت سابق، عن ثقتها بذكاء الشعب التونسيّ الذي يستطيع إقصاء المنظومة القديمة عن طريق الصناديق، تلطيفاً وتخفيفاً لما سبق من القول الثقيل .. فمن تخادع "النهضة" بهذا الخطاب المتدرّج في اتجاه العودة برجال بن علي إلى مواقع القرار؟

ليس من السهل حسم المسألة، الآن، لأنّنا إزاء خطاب يقبل الاستحسان والاستهجان، بحسب موقع المستحسن والمستهجن، ثمّ، بمرور الوقت وتراكم التجارب وتعدّد القرائن. وإلاّ سننقاد إلى القول إنّ حركة النهضة تخادع الجميع، وتخادع نفسها بخيانة مبادئها، وانتظارات شقّ من أنصارها الذين مازالوا يرفضون التسامح والتعامل مع من أقصاهم طوال عقود.

وحينئذٍ، لا يمكن فهم ذلك الموقف (القبيح/ الحسن) إلاّ بتفسير واحد، قوامه أنّ عودة النظام القديم ليست رهينة الانتخابات ونتائجها، كما يتوهّم كثيرون. فقد عاد فعلاً، كأنّ ثورة لم تكن، وبات لزاماً على كلّ ذي رأي حكيم أن يتعامل بحذر مع الواقع الجديد، بعد أن استيقظ المارد، أو خلاياه النائمة، واستأنف أعوانه المتغلغلون في مفاصل الدولة، وفي وسائل الإعلام، وفي لوبيّاته، نشاطهم علانية، من دون خوف من أحد. وهم قادرون على التأثير في عمليّة الاقتراع المقبلة، ولعلّهم لا يحتاجون إلى ذلك أصلاً، فأغلب القيادات الحزبيّة المعروفة، وغير المعروفة، تغازلهم، وتخطب ودّهم، وتعدهم بأدوار ومناصب (قديمة /جديدة) في مشهدٍ، يوحي بأنّ تونس ترحّب، اليوم، بالأزلام، تحت ضغط أوجد ذلك السياق الجديد، لنتعايش معه، حسناً كان أو قبيحا.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.