في تلازم الثقافي والاجتماعي.. تونس نموذجاً

23 يونيو 2018
+ الخط -
أقرت دول العالم "خطة العمل حول السياسات الثقافية للتنمية" في المؤتمر الدولي حول السياسات الثقافية من أجل التنمية، والذي عقدته منظمة اليونسكو في استوكهولم عام 1998، وشاركت فيه ست عشرة دولة عربية على المستوى الوزاري، واستندت إلى تقرير بعنوان "تنوعنا البشري الخلاق"، أعدته مجموعة من الخبراء برئاسة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، خافيير دي كويلار. وعرّفت الخطة التنمية الثقافية بأنها عملية توسيع مجال الخيارات أمام الناس، وهو مفهوم يقيس التنمية لمدى تنوع واسع من الإمكانات المتاحة أمام الناس، تتراوح بين الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى الفرص المتاحة أمام الفرد ليتمتع بالصحة والتعليم والثقافة، ويكون منتجا خلاقا ناعما بالكرامة وحقوق الإنسان. إذ ليس الهدف النهائي للتنمية سوى تحقيق الخير المادي والذهني والاجتماعي لكل الناس.
يفرد تقرير دي كويلار أهمية خاصة للعنصر الثقافي في مفهوم التنمية، كما يؤكد على أن الحرية الثقافية أمر حيوي للكرامة الإنسانية، ويضيف التقرير أن الحرية الثقافية هي ضمان للحرية، بما هي كل متكامل، فهي تتجاوز حماية الجماعة إلى حماية حق كل فرد من أفرادها. والحرية الثقافية، بحمايتها مناهج الآخرين في الحياة، تشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع. وقد خلص التقرير إلى أن "التنمية الحقيقية ليست التي تسعى إلى ردم الهوة وتجاوزها بين الدول الفقيرة والدول الغنية فحسب، بل التي تظهر أن التقاليد الخاصة بكل ثقافة من الثقافات يمكن أن تدمج بالموارد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الحديثة، فيكون للشعوب حقها في رسم تصوراتها الخاصة للإبداع وتجلياته، وكذلك للحداثة المرتبطة بتراثها وتقاليدها، فلا نملي عليها أنماط الحداثة الغربية، ولا نفرض مبادئها الغريبة عنها باسم الحداثة".
يوصل هذا المدخل النظري عن استحالة تحقيق تنمية مستدامة في غياب العنصر الثقافي إلى أن تونس تعيش اليوم تحولا إجتماعيا خطيرا، تواجه فيه الدولة بمفهومها الشامل، والمجتمع بكل شرائحه، نخبا وأفرادا، تحديات مصيرية، ولعل أول شروط الاستجابة لهذه التحديات أن يتكاتف التونسيون جميعا متكافلين ومتعاضدين، من أجل استجابة جماعية في حجم التحديات التي تواجهم، وتلك هي بالضبط "المسؤولية التاريخية والأخلاقية والوطنية التي تضمن لنا تجاوز مجمل التحديات التي تواجهنا".
الفعل الثقافي إذن هو تحول اجتماعي وحضاري شامل، والثقافة، في معناها الإنثروبولوجي، 
هي بيئة اجتماعية، بكل تمثلاتها ورموزها وتجلياتها الإبداعية، وهي طوق نجاتنا من هجمة هذه التحديات المتنوعة. تاريخيا انطلقت التنمية الاجتماعية والاقتصادية مع دولة الاستقلال باحترام تلازم الثقافي والاجتماعي، وانطلق الآباء المؤسسون للمشروع المجتمعي التونسي الجديد من اعتبار البعد الثقافي حجر الزاوية في إنجاح التغيير الاجتماعي الذي ينبثق أساسا من ضرورة تغيير العقول والذهنيات. ويذكر علي بن العربي في كتابه "سياسات الثقافي التي نريد" ما يفيد بأن تصورات السياسة الثقافية بعد الاستقلال، بالنسبة لأول رئيس حكومة تونسية إثر الاستقلال الداخلي سنة 1955، الزعيم الحبيب بورقيبة، تتمثل في تأسيسه الدولة التونسية الفتية، وبسط نفوذها السياسي على كامل تراب البلاد بإعلان الاستقلال التام في مارس/ آذار 1956، من خلال إعلان الجمهورية في 25 يوليو/ تموز 1957، ليصبح الزعيم بورقيبة أول رئيس للجمهورية...
وعلى الرغم من ازدحام الأولويات للدولة الفتية، أمنيا وعسكريا وإداريا واقتصاديا، على الرغم من ذلك كله، كان هم بورقيبة تربويا وثقافيا، وكان القانون الصادر في غرة أكتوبر/ تشرين الأول 1957، والمنظم للتعليم، محققا أحد المكاسب الملحة للدولة الفتية، ثم جاءت بعد ذلك مباشرة القرارات الخمسة التي تسند إحداث وزارة المعارف، والإنطلاق في الإصلاح التربوي، وأول هذه القرارات برنامج رفع الأمية وتعليم الكبار (سنة 1958)، وإحداث الشركة الوطنية للإنماء السينمائي، وبعث المعهد الوطني للآثار والفنون، وقيام اللجنة الثقافية "القومية"، والبدء في تشييد شبكة دور الشعب، وأخيرا إنشاء الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، والتي ستعوضها في 1964 الشركة التونسية للتوزيع، وتتفرع عنها في 1966 الدار التونسية للنشر، وكان قد سبقها إحداث المركز الوطني البيداغوجي سنة 1958. والمعلوم أن الزعيم بورقيبة كان يعتني، في خطبه، بالمسألة الثقافية، وكان أولها خطابه في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1962 الذي خصصه للمسرح، والذي أصبح منذ ذلك التاريخ فرصة لدعوة المسرحيين إلى قصر قرطاج لتكريمهم، ويعتبر هذا الحدث من المواعيد التي انطلق منها أسبوع المسرح، وتقديم تظاهراتٍ مسرحيةٍ في كامل أنحاء الجمهورية، كما كان ذلك منطلقا للمسرح المدرسي. ومع قيام الجامعة التونسية، قام معها المسرح الجامعي الذي كان الأرضية الخصبة التي أنبتت مسرحيين روادا للمسرح التونسي. وفي شهادة تاريخية مهمة، يذكر الشاذلي القليبي، أول وزير للثقافة في دولة الاستقلال أن "الرئيس بورقيبة كان مترددا في إنشاء وزارة تعنى بالثقافة، لاشتهار الدول الشيوعية بهذا الاختصاص الوزاري، وكان يتحاشى الاقتداء بها لإيمانه بأن الثقافة بدون حرية الإبداع، لا خير فيها لأهلها، ولا للبلاد عامة... ثم طرأ في تنظيمات
 الحكومة الفرنسية ما أقنع الرئيس أن الممارسات الشيوعية في أعمال هذه الوزارة يمكن تفادي سلبياتها بفتح أبواب الحرية، والسعي إلى نشر الحركة الفكرية. وكان من حظ هذه الوزارة الناشئة أن اجتمع في رحابها ومن حولها ثلة من أهل الفكر ومن أصحاب الاختصاصات الفنية الأفذاذ". ويذكر القليبي أن وظيفة اللجنة الثقافية القومية التنسيق بين اللجان الجهوية، ومتابعة كل ما يتعلق بالشؤون الثقافية في الجهات، صهرا لمختلف الأنشطة، وتفاعلها في تركيز الاهتمامات الثقافية، وإثارة الاجتهادات الفكرية والفنية، حيث بدأت تظهر ملامح ثقافة تونسية جديدة: "عريقة في عروبتها، متأصلة في انتمائها الوطني، متفتحة على المنازع الإنسانية، آخذة بسبل التطور والنمو". مع إخراج الحركة الثقافية من الانحصار في العاصمة، وجعلها تشع من سائر المدن، شاملة وجوها من الفنون لم تكن من قبل تعتبر من الثقافة. ومن التفاصيل التي ذكرها الشاذلي القليبي عن تلك المرحلة أن الرئيس بورقيبة كان أول من أطلق على الشعر الملحون الشعر الشعبي. وفي ذلك أكثر من دلالة، أهمها تجذير الثقافة في بيئتها الاجتماعية، وجعل التجليات الإجتماعية مادة للإبداع والحلم.
تلك إذن منطلقات التأسيس الثقافي للدولة التونسية، مع قيامها دولة فتية لشعبٍ خارج لتوه من سجون الاستعمار وإكراهات الجهل والفقر والعبودية... كان انطلاق المشروع المجتمعي الحديث ملتحما مع الفعل الثقافي، وعلى الرغم من التحولات التي شهدها المجتمع التونسي، مدا وجزرا، والتي تحولت خلالها من دولة الثقافة إلى ثقافة الدولة أحيانا، فإننا نشهد اليوم عودة إلى الخيار التأسيسي الأول، لإيلاء الثقافة دورها الفاعل في منظومة التنمية والتغيير الاجتماعي، ويتجلى هذا الخيار فيما تعمل على تنفيذه حكومة الوحدة الوطنية، من خلال السياسة الثقافية الحالية التي نراها تشع في المركز، وتسعى إلى الإشعاع في الداخل، من خلال الفعاليات والتظاهرات والمهرجانات في مختلف أنحاء البلاد التي تعمل على تنفيذها وزارة الشؤون الثقافية. وقد تأكد هذا الخيار بما بادرت به وزارة الشؤون الاجتماعية، من خلال استراتيجيتها لثقافة المؤسسة والمدن العمالية، وجديد تجلياتها "المهرجان الثقافي" في الحوض المنجمي، والندوة الوطنية لثقافة العمل، على اعتبار أن العمل إذا كان في المجتمعات القديمة قدر الفقراء، بل عقابا كما هو في بعض الأديان، فقد صار في العصر الحديث، خصوصا بعد الثورات الصناعية، معيار المقام الاجتماعي، ومصدر ثروات الأمم وعظمتها، مثلما يقول آدم سميث. وبذلك يتلازم الفعل الثقافي مع الاجتماعي، في تفاعل مستمر في السياسات التنموية التونسية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي