في تذكّر صديق الفلسطينيين سيرج ثيون

29 يناير 2018

سيرج ثيون.. نقض مقولة "غرف الغاز"

+ الخط -
غيّب الموت، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، المثقف الفرنسي البارز، سيرج ثيون، وكان من المناضلين الذين عايشوا الشعب الفلسطيني بود ومحبة، قدم إلى لبنان في نهاية سبعينات القرن الماضي، وزار مخيم القاسمية، وبات ليلة هناك لشعوره الإنساني اتجاه الفلسطينيين في مخيمات الشتات. وكان صديقا مقربا من المخرج السينمائي اللبناني، كريستيان غازي الذي أطلق عليه اللبنانيون لقب "فدائي السينما"، لتعلقه الشديد بالقضية الفلسطينية التي خصص لها جزءاً مهما من أفلامه. ومن أبرز إنتاجات سيرج ثيون، تناوله ادعاءات الصهيونية عن استخدام النازيين غرف الغاز لتصفية اليهود في أوروبا ضمن ما أطلق عليه "الهولوكوست". حيث عمل على كشف "أكذوبة" استخدام غرف الغاز، المستخدمة في سياق التعريف بماهية الهولوكوست، وكيف تطورت فكرة المحرقة، لتصبح كأنها من المقدسات التي لا ينبغي المس بها على المستوى الدولي، بل وعلى الصعيد العربي أحياناً. والهولوكوست كلمة مشتقة من اللغة اليونانية، تعني الحرق الكامل للقرابين المقدمة لخالق الكون. وأول مرة استعملت فيها كانت لوصف طريقة معاملة الزعيم الألماني النازي هتلر اليهود في 1942. واعتبرت غرف الغاز أهم جانب في أسطورة المحرقة، لأنها المكان الذي يفترض أن اليهود أبيدوا فيها، فإذا جرى إثبات عدم وجود غرف غاز (وهذا هو ما فعله المؤرخون المراجعون بالعلم والحجة) تنهار أسطورة المحرقة بكاملها.

حصرية استخدام تعبير الهولوكوست لوصف ما تعرّض له اليهود فقط في الحرب العالمية الثانية، واستخدام الاضطهاد الذي تعرّضوا له على يد النازيين الألمان لتبرير دعم الحركة الصهيونية، في إيجاد ملاذ آمن لليهود على حساب الشعب الفلسطيني، وإقامة كيان لليهود على أرض فسطين بدعم غربي، إضافة إلى تجاهل المآسي التي تعرضت لها فئات أخرى على أيدي النازيين الألمان، فتحت المجال لسجالٍ في الغرب، تناول مسائل متعلقة بما سمي الهولوكوست. وقد تم تشكيل أكثر من لجنة لمراجعة الهولوكوست، وقد عرف هؤلاء بمراجعي التاريخ، فيما أطلقت عليهم دوائر صهيونية اسم ناكري المحرقة. وينتمي المؤرخون والباحثون في موضوع المحرقة إلى أطراف سياسية مختلفة، من اليمين إلى اليسار، بل بينهم بعض اليهود، مثل دانيال كول ولوجو فيتش وجون ساك. وينتسب المراجعون إلى طرف يشكك في الأرقام التي أعطيت لعدد اليهود الذين قضوا نتيجة للقتل والحرق في غرف الغاز، فيما قسم آخر، إضافة لتشكيكهم في هذا، يشككون أيضا في حصول القتل في غرف الغاز، في غياب دلائل علمية عن وجود وسيلةٍ للقتل كهذه. وقد أدت موجة التشكيك هذه إلى تحرك في أوروبا من الصهاينة وحلفائهم، بالدفع إلى إصدار تشريعات في كل أوروبا، تقضي بتجريم كل من يحاول الوصول إلى حقيقة الهولوكوست، وتجريم كل من يتناول الرواية التقليدية للمحرقة في أوروبا بالنقد. كما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2007 قراراً غير ملزم يدين أي إنكار لمحرقة اليهود (الهولوكوست) كحدث تاريخي. وعلى الرغم من عدم إلزامية القرار، فإنه قدم غطاءً معنوياً دولياً لقوانين مكافحة "إنكار المحرقة" في الاتحاد الأوروبي.
ومن الشخصيات التي لوحقت وتعرضت للسجن وللطرد من وظيفته الجامعية، وللضرب في شوارع فرنسا، لجرأته في مناقشة المحرقة، المؤرخ والأستاذ الجامعي الفرنسي، روبير فوريسون، وتلاه روجيه غارودي، والذي حاكمته السلطات الفرنسية، وبعدهم سيرج ثيون، صاحب كتاب "الحقيقة التاريخية والحقيقة السياسية"، والذي طرد من وظيفته في مركز أبحاث فرنسي ولوحق في بلاده. وقد اعتمد في دراسته على علماء عديدين في الكيمياء والفيزياء،
أكدوا على عدم مصداقية وجود غرفة الغاز محارق في معسكرات الاعتقال النازية. وتوصل ثيون، في بحثه، إلى أن غرف الغاز ليست حقيقة تاريخية، لكنها تحولت إلى حقيقة سياسية تستخدم لتهجير اليهود نحو فلسطين، ولتبرير إقامة كيان صهيوني في فلسطين. وخلص إلى أن مواجهة مراجعي التاريخ من السلطات ينبغي أن تكون بتقديم حجج وبراهين، وليس عبر الملاحقات والضرب، كما حصل مع فوريسون. وعلى الرغم من الملاحقات التي استهدفت مراجعي التاريخ العلمانيين، فقد منيت، في 21/2/1997، أسطورة غرف الغاز بهزيمة كبيرة في صحيفة لوموند الفرنسية، إذ أعلن 34 عالما فرنسيا عن الاستحالة التقنية لهذه المسالخ الكيميائية.
وبالتالي، لا ينجسم قول بعض المثقفين الفلسطينيين والعرب إن موضوع المحرقة لا يخص العرب والفلسطينيين، باعتباره موضوعا أوروبيا بامتياز، مع الوقائع التاريخية المتعلقة باستخدام المحرقة وسيلة لاستجلاب المستوطنين إلى فلسطين، فقد كانت المؤسسات الصهيونية تضع اليهود الموجودين في مراكز تجميع اللاجئين بعد الحرب العالمية الثانية، بغرض إقناعهم بعدم العودة إلى المناطق التي هجروا منها في أوروبا، وتحريضهم على اختيار الاستيطان في فلسطين، فالقادة والسياسيون الصهاينة كانوا يقومون بجولات منتظمة لمخيمات النازحين اليهود لنشر فكرة الملاذ الآمن في وطن حصري لليهود. والأنكى التسهيلات التي قدمتها المنظمة الدولية للاجئين (IRO) لليهود للانتقال إلى فلسطين، والاستيطان هناك. وهي الهيئة التي تم تأسيسسها عام 1946 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ففي عام 1947، تولت الهيئة مهمة توطين 132 ألف أوروبي يهودي في فلسطين، منحوا امتيازات الإقامة باعتبارهم مواطنين حيثما يشاؤون. وفي المقابل، منع الفلسطينيون الذين نزحوا من قراهم، وبقوا في الجزء من فلسطين المحتلة التي أعلن عليها قيام إسرائيل بعد حرب 1948 من العودة إلى منازلهم وممتلكاتهم، وقد تحول هؤلاء إلى مهجرين داخل وطنهم.
وفي الختام، الفلسطينيون الذين تعرّضوا لأكثر من محرقة على يد الصهاينة الإسرائيليين غير معنيين بترك حقوقهم، لمجرد أن مضطهديهم وقاتليهم، تعرّضوا لادعاء الاضطهاد من الغرب منذ الحرب العالمية الثانية؛ الغرب الذي تعمل أهم دولة فيه على دعم إسرائيل، وتغييب حقوق اللاجئين ومصادرة تاريخهم ومستقبلهم، بحجة أن اليهود هم ضحايا غرف الغاز التي يقول مراجعون في التاريخ، ومنهم الوفي للشعب الفلسطيني، الراحل أخيرا سيرج ثيون، إنها أكذوبة استخدمها الصهاينة لاحتلال أرض فلسطين، وتحويل أكثر أبناء شعبها إلى لاجئين.
E64A09A2-8DB9-4CBB-887F-F1218463AA87
E64A09A2-8DB9-4CBB-887F-F1218463AA87
محمود العلي

باحث فلسطيني، دكتوراه في علم الاجتماع. عمل استاذاً مساعداً في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية، وفي عدّة وظائف في "الأونروا"، باحث ومنسق مركز حقوق اللاجئين – عائدون.

محمود العلي