كانت الرواية اليوتوبية التي كُتبت في القرون الماضية تأمل أن يكون المستقبل - وهو بالنسبة لكتّابها زمننا هذا مثلاً - أكثر إنسانية من حيث علاقة البشر بعضهم مع بعض، وأكثر عدالة في توزيع الثروات، وأكثر يسراً في العيش، حيث تُبنى المدن الفاضلة.
وفي الغالب فإن الروائيين بخاصة كانوا يأملون من تلك الأفكار الخيالية أن يتمكنوا من إقناع البشر بحسنات الأماكن التي تنتفي فيها الحروب، بقدر ما كانت آمالهم قوية بقدرة العلم على الانتصار للسعادة والحق.
لم يتحقق أي حلم يوتوبي بالطبع، وبدل ذلك بدأت أشكال عديدة من الثقافة تعلن خوفها من العِلم بعد أن رأت البشرية النتائج الكارثية لبعض استخداماته. وبدل اليوتوبيا سادت في الثقافة الغربية الديستوبيا. حيث تعلن تلك المجتمعات التي أنتجت العلم أنها خائفة منه، وهي خائفة من العلماء أنفسهم، بل إن السينما الأميركية، تبدو مذعورة تماماً من قوة العِلم وآفاقه اللامحدودة، وخاصة في الأعمال التي تسمى "سينما الخيال العِلمي".
تستند سينما هوليوود إلى العِلم نفسه في إنتاج أفلام الخيال، حيث تقدّم لها تكنولوجيا شديدة التطوّر خدمات لوجستية لبناء فن قائم على الرعب من التقدّم العلمي، ومن التقنيات المعاصرة، ومن التجرّد من أخلاق العلماء، ومن تبني أيديولوجيات شريرة هادفة إلى تدمير العالم، إذ إن تلك الأفلام تقدّم حزمة من التصوّرات المرعبة عن الأسلحة التي ستُخترع، والأدوية التي ستقتل البشر، والطرق التي سيتم فيها محو الأرض، مدعومة بتوقعات العلم، والتنبؤ "العِلمي".
هذا هو فحوى عشرات الأفلام التي تنتجها هوليوود، حيث تتم ترجمة الكثير من الصراعات السياسية القائمة اليوم، بين أميركا وأعدائها، أو تلك التي كانت بالأمس، بين المنظومة الاشتراكية، أو المنظومة الرأسمالية، إلى لغة السينما؛ فتوجِّه للعِلم رسالة هجائية تضعه في خانة الاتهام، على اعتبار أنه هو لا الساسة المجانين المسؤول عن الأخطار التي تتهدد البشرية.
صحيح أن هذه الرسالة لا تقال علنا، غير أن مغزاها يتسرّب من خلال التكرار المتواصل لإنتاج أفلام لا تتحدث عن التقدّم العِلمي بخير. على الرغم من أن عِلما آخر يقدَّم بوصفه المنقذ، غير أنه يأتي في النهاية بعد أن يكون المشاهد قد أُغرق في جحيم من الرعب الذي يجد نفسه تجاهه ضعيفاً أعزل مهدداً بالفناء.
لا توفّر سينما الخيال العلمي عالم الفضاء الخارجي أيضاً، فتدّعي عليه، وفي الغالب فإنّ شكل الصراع السياسي على الأرض يُنقل حرفياً إلى صراع كوني، تستخدم فيه أيديولوجية قاتمة، حيث يتورّط رجال قادمون من العوالم الأخرى في حروب عبثية أحياناً يكون هدفها في المقام الأول تدمير كوكب الأرض. بل إن بعض تلك الأفلام يتحدث عن الأوبئة وانتشارها في عالمنا.
ولكن هل انتهى زمن اليوتوبيا؟ لا بالطبع؛ إذ بينما تعيش البشرية كابوساً شبيهاً بأسوأ تلك الكوابيس التي قدّمتها السينما، والرواية الديستوبية؛ تخلق اللحظة تضامناً بشرياً فريداً يقدّم للخيال كل العناصر التي اعتقدنا أنها فُقدت وضاعت كي نعيد من جديد بناء فكرة البحث عن المدينة الفاضلة.
* روائي من سورية