في العيد

12 سبتمبر 2016
+ الخط -
في أيامنا الخوالي التي تبدو الآن نائية وسحيقة، كان ثمّة عيد حقيقي، بما تحمله المفردة من معنى الاحتفال والصخب. تأهب شديد اللهجة كان يسبق ليلة العيد بأيام كثيرة: نشرع في الإعداد لاستقبال الضيف الغالي، بكل ما نملك من طاقةٍ. تنهمك الأمهات في تنظيف البيوت، بشكل جذري يطاول السقوف والجدران والخزائن والأرضيات والستائر.
تبدأ حفلة "التعزيل" قبل أسبوع على الأقل من موعد العيد. تتنافس الجارات في نشر الملاءات الأنصع بياضاً بفعل قرص "النيلة" المذوّب جيدا، وكدّ أيديهن "المشقّقات"، فقد كان غلي الأقمشة مرحلةً تمهيديةً أساسية في عملية الغسيل اليدوي.
وكنا نتساءل ببراءة عن السبب الذي يدعو أمهاتنا إلى "طهو الغسيل قبل نشره". لم نكن ندرك، ونحن نقبل أيديهن صبيحة العيد، ونستنشق رائحة صابون النعامة المنبعثة من المسام، مدى تعبهن. لذا، لم يخطر ببالنا، نحن اللاهين بطفولتنا، تقبيل حبات العرق المبارك اللواتي تصببنه مدراراً في سبيل راحتنا.
بعد إنجاز العمل المنزلي الشاق، يصطحبن صغارهن إلى السوق، يذرعن الدكاكين القليلة ببضاعتها المحدودة، يقارعن التجار، ويحصلن على أفضل الصفقات الممكنة، كي نزهو نحن بثيابٍ تليق بالحدث المنتظر.
حين يُقام طقس إعداد الكعك، تجتمع الجارات في واحدٍ من بيوت الحارة، وتفوح رائحة اليانسون والتمر وجوزة الطيب والسميد المعجون بالسمن البلدي. ويسمع عن بعد صوت طرق قوالب المعمول الخشبية في فضاء الحارة المفتوح على الوعد بفرح ساطع، آتٍ.
ننشغل في مساعدتهن، على أمل تبديد الوقت الذي يصبح أكثر بطأً من سلحفاة. نهرع إلى الفرن، يخبز فران الحارة المعمول حتى وقت متأخر من الليل، ليقدّمه هشّاً طازجاً مرشوشاً بالسكر الناعم في صبيحة العيد. نتضرّع إلى الله مخلصين أن يحبس المطر في حضن الغيمات، كي لا يحبسنا الأهل في البيوت، بذريعة الخشية من البلل.
نخبئ ثيابنا الجديدة تحت الوسائد، ننام بأعينٍ مفتوحةٍ لا يكاد يغمض لها جفن. نصحو "معجوقين" على مدفع العيد، يقصف إيذاناً بأوان البهجة. نرهف السمع لصوت التكبيرات في صلاة العيد، بذلك الصوت الجماعي المهيب، يحفّزنا أكثر للنهوض صوب يومٍ كنا نحلم، من فرط الشغف، لو أنه لا ينتهي.
نرتدي ثيابنا الجديدة مختالين، نفتتح العيد بتقبيل أيدي الوالدين، ونحصل على العيدية قروشا قليلة، تعادل كنزا لا يفنى. تشرع أبواب البيوت على اتساعها، وتفوح رائحة القهوة المرّة معطّرةً بالهيل، نهرع إلى أرجوحةٍ خشبيةٍ ما تزال منصوبةً في البال، نمتطيها غير مصدّقين، ونلحّ على صاحبها، لكي يعلو بها نحو السماء.
ننخرط في جولتنا إلى بيوت الأقارب والجيران، نعبئ الجيوب بالغنائم الصغيرة، نذرع النهار طولاً وعرضاً، نبتاع الألعاب البلاستيكية سيئة الصنع، ونفرح بها كمن امتلك بقبضته الصغيرة العالم بأسره.
ونفرح من قلوبنا بالتحرّر من روتين سائر الأيام، ونتذوّق نكهة الحرية بعيداً عن رقابة الأهل الذين يتواطأون مع رغبتنا في قليلٍ من الانفلات، فيغضون الطرف، ولكن إلى حين.
في أيامنا الراهنة، اختلفت الصورة كثيراً، لأن أطفال هذا الزمن أكثر واقعيةً وأقل قابليةً للاندهاش؛ فشراء الثياب الجديدة بالنسبة لهم حدث شديد العادية، لا يستحق الالتفات، كما صار أولئك الأحبة يطالبون ويفاوضون في قيمة العيدية، ولا يقدمون تنازلاتٍ في هذا الشأن.
ارتبط العيد في أذهاننا بجملة مسرحيات بائدة "بايتة"، لا تمل محطات التلفزة الرسمية من بثها، وكأنها من شعائر العيد، ولم تعد الأمهات يخبزن الكعك، لوفرته جاهزاً في السوق، بلا تعب قلب.
انحسرت، على مدى السنين، طقوس تواصل إنساني دافئ وحميم، فأصبحت زيارات العيد في حدّها الأدنى، وأغلقت أبواب البيوت على ساكينها، واختصرت أدوات التواصل إلى رسائل هاتفية، منزوعة الخصوصية، ركيكة التركيب اللغوي، يرسلها الكل إلى الكل، لتجني شركات الاتصال أرباحاً طائلة، فيما نغرق تدريجياً في مزيد من العزلة.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.