في الدولة .. والدولة الاجتماعية وكورونا

31 مايو 2020
+ الخط -
ما يأتي مُرافعة من أجل الدولة الاجتماعية، وبالضروة من أجل الديمقراطية؛ إذ يتعذّر، بالتعريف، أن يكون نظام الدولة الاجتماعية غيرَ ديمقراطي. ونحنُ نعرف، بالخبرة المعيشة، أن الاستبداد صنوُه الفسادُ والمحسوبيةُ وسرقةُ المال العام، وبالتالي غياب العدالة والتفاوت في توزيع الثروة الاجتماعية، وتكميم الأفواه والعسف. والموقف هنا هو القول بضرورة إعادة "اختراع" الدولة الاجتماعية، وبناء شرعيتها على أسس الحقوق الإنسانية. والفرضية الرئيسة، أن جائحة كورونا كشفت أمرين مترابطين: أولهما، أن الدولة الاجتماعية ليست خياراً أيديولوجياً، كما قد يُظَنُّ، بل وظيفة اجتماعية مركزية من وظائف الدولة يتعذّر التغاضي عنها. وبيانُ ثانيهما، أن الدولة المدعوة ليبرالية تآكلت شرعيتها، وما عادت قادرةً على أن تكون فاعلاً تاريخياً، أي صانعة للتاريخ. 
لكن الملاحظة المركزية في هذا السياق، أن جائحة كورونا أعادت مفهوم الدولة إلى واجهة التأملات (واللغط، والثرثرة... إلخ)، ووضعت وظائفَها وشرعية هذه الوظائف قيد المساءلة. هكذا، استعادت الدولة مكانتها التي كانت قد خسرتها، وأخذ الطلب عليها في النمو في بورصة الفكر السياسي. فليس غير الدولة من يقدر على أن يوفّر للناس القاعدةَ الضرورية لحماية اجتماعهم من التفكّك، ولتدامجهم، ولتنظيم أمور مواجهة الجائحة التي وضعتهم، فجأة، أمام هشاشة حضارتهم، ومحدودية معارفهم التي كانوا يعتقدون أنها صلبة.
في بدايات الأزمة، أقرّت الحكومات بفضائل الدولة الاجتماعية. وأخذ قادة الدول يتبارون في تأكيد البعد الحمائي في مقالهم المستجد. ستتحمل الدولة أكلاف الحرب، بحسب تعبير الشابين، رئيس 
الوزراء الكندي ترودو، والرئيس الفرنسي ماكرون. بدت الأمور كما لو أنهما تخليا كليّاً عن تلك الاستراتيجية التي كانا قد اعتمداها بخصوص لبرلة الخدمات العامة، كالصحة والمواصلات والاتصالات والتعليم وغير ذلك، ومهّدا لخصخصتها. صارا يتحدّثان عن دولة رعاية، أو بالأصح عن مهمات دولة رعاية اجتماعية، من أجل المواجهة الكبرى وضمان النصر على هذا العدو المُراوِغ. وأعلن وزير المالية الفرنسي، القادم من صفوف اليمين، أن لدى الدولة الفرنسية ما يكفي من الأموال لتأدية المهمة التي أوكلت إلى نفسها تأديتها. شرعوا يتحدثون عن مئات، بل وآلاف المليارات، من أجل الحمائية الجديدة هذه.
ما الأزمة غير عجزنا عن سبر كنه الحوادث والظواهر التي تحيط بنا. فحين تعجز معارفُنا عن فكّ طلاسم الوقائع، ويستقرُّ في النفوس أن علومَنا كفّت عن تزويدنا بالمعرفة، وعن ملء نفوسنا باليقين، وعن رسم سبيل مساءلاتنا، نعرف أننا في أزمة. الأزمة هي لعثمة الفكر إزاء ما يبدو أنه مُستغلق عليه. بهذا المعنى، في كل أزمة سيرورتان تتفاعلان في داخل حقل المعرفة. سيرورةُ تآكل شرعية المعارف السائدة وكساد سوقها في بورصةِ الأفكار، وسيرورةٌ متنامية محورها الطلبُ على معرفة جديدة، ومساءلاتٍ جديدة بالضرورة. وبحسب رطانة اليوم، الأزمة هي الفجوة بين براديغمات (نماذج) انتهت صلاحيتها، وبراديغمات جديدة ما زالت تشق طريقَها المتعثِّرَ نحو احتلال عرش "الحقيقة"، في التاريخ.
بيّنت جائحةُ كورونا عمقَ أزمتنا، ووضعت عالمَنا القائمَ كلَّه، وحضارتَنا بأسرها، موضعَ المساءلة، وهزّت بالضرورة قناعاتنا التي كانت راسخةً بصلاحيتها. ويتضح أن الطابع المفاجئ للفيروس هو الذي كشف ما هو عميق في أزمة الحضارة الليبرالية المعاصرة: عجزها عن مواجهة التعقيد والطارئ المفاجئ في آن واحد. ثمّة معنى مضاعف للحدث إذاً: أن المعرفة نسبية ومحدودة، وأن الدولة الحديثة كفت عن إنتاج التاريخ. وبالرغم من كل اللغط الكثيف حول "ما بعد كورونا"، تتّسم هذه الأزمة بأُفقها المسدود: لا مُستقبل لها؛ مستقبلها في موتها و/أو في السيطرة عليها. بيد أن كشفها المركزي، الذي سيبقيها عصيةً على الموت، هو تآكل شرعية الحداثة السياسية في وضح النهار.
تجتمع في الأزمة الناتجة من جائحة كورونا، إذاً، جملةٌ متراكبةٌ من الأزمات، يتصل جُلّها بدور 
الدولة الحديثة في الاجتماع، وبالنظرية السياسية التي تتصل بها، وبشرعياتها، من ناحية، وبما يريده الناس و/أو يتوقعونه من هذه الدولة، من ناحية ثانية. يتّضح ذلك في كل مرةٍ عبّر الناس بشكل كثيف عن مطالبهم: إعادة تعريف الدولة، أي أن تستردّ دورَها الحمائي الذي تتخلى عنه، وأن تُعدّلَ نظرتها إلى نفسها، من حيث هي كذلك. هذا هو معنى حركتي "الساخطين" و"السترات الصفر"، على سبيل المثال.
هناك من يقول إن الجائحات تغيّر العالم، أي تدفعه نحو الأحسن. لكن افتراض أن الحضارة "تتطور" جرّاء الجوائح لا يمكن الاعتداد به، باعتبار أن التاريخ البشري اقترن دائماً بموجاتٍ متلاحقةٍ من الجوائح والكوارث، كالفيضانات والزلازل، بحيث يصعب الركون إلى فرضية تحقيب الحضارة بالجوائح. وبخلاف الخطاب الرسمي عن التعاون الدولي، ثمّة إشارات عديدة تؤكد أن الدول الكبرى تميلُ اليوم إلى بناء القدرات الذاتية لمواجهة أية جائحةٍ ممكنةٍ في المستقبل؛ ستبحث الدول عن أمنها الغذائي والدوائي الخاص. لكن مشكلة هذا البحث أنه متعذّر بالفعل، لأن قطار العولمة لن يتوقف بعد أن أمعن في الانطلاق، ولأن سيرورات العولمة تجعل من كلّ سياسة شوفينية خرقاء ومتعذرة.
حدّدت الدولة الحديثة لنفسها مهمتين متعارضتين، يصعب جمعهما تحت سقف واحد: دمجُ الوظائف التقليدية للدولة في قلب مهماتها التي حدّدها مفكرو عصر الأنوار، وهي ضمان العدل في توزيع الثروات الاجتماعية وتأمين الرفاه الاجتماعي من طريق توفير الخدمات العامة الصحية والتربوية والترفيهية والمواصلات والمساكن، وضبط حركة السوق والاستهلاك، أي سياسة الأسعار والأجور وسوق العمل وضبط التضخم؛ وفي الوقت نفسه، وهنا يكمن التناقض الثاني، ضمان حرية المبادرة التي هي أساس فكرة المشروع الرأسمالي. وهو تناقضٌ يشكل مصدراً جدّياً من مصادر التوتر، تمكنت دولٌ قليلة في أعلى الهرم من امتصاص حدّة توتراته بتوسّل الإشراف على التفاوضات الدورية بين ممثلي العمال وأرباب العمل، وإلى اعتماد مفهومٍ لحقوق الإنسان يوفر مستوىً ما من الكرامة، ومن حرية الحركة والتنظيم والرأي. وبالمناسبة، تتمثل وحشية خيارات الليبراليين الجدد في التضحية و/أو في تهميش الحقوق الإنسانية، حين يضعون الإنسان في خدمة الاقتصاد، لا العكس، وحين ينزعون من فكرة الدولة الحديثة، كما بيَّن يورغن هابرماس، فكرةَ الطوبى أو المدينة الفاضلة.
من المعروف أن دولة الرعاية الاجتماعية (أو الدولة الاجتماعية كما يطلق عليها الألمان)، هي، 
بحسب التعريف الذي حدَّدته لنفسها، مُنسِّق الحركة وضابط التوازنات بين المصالح المتناقضة للجماعات وتعاضداتها. بيد أنَّ الدولة الاجتماعية لا تستطيع أن تفترض في نفسها شرعيةَ ضمانِ التوازنات العامة، إن لم تكُن كينونةً متعاليةً على الجماعة التي يتشكل جسدها منها، أي أن تفترضَ في نفسها الحياد الاجتماعي بين المصالح المتضاربة والمتناقضة التي تقف في ما وراء الحركة في المجتمع، من جهة، وأن السلطة فيها مقننة، أي غير مشخصنة، وتخضع للمراقبة والمحاسبة واللَّجم، من جهة ثانية.
ليست الدولةُ الاجتماعية، بحسب الدستور على الأقل، دولةَ المجتمع كله، إلا لأنها تقف في تلك النقطة التي تتيح لها أن تشرف على المجتمع (من حيث هو واقعة سوسيولوجية: مُركّبة من جماعات وهويات متناثرة ومتعارضة، وسيرورة متحرّكة ومتغيّرة في آن واحد)، وأن تعيد دمج فئاته وجماعاته الدنيا التي يتشكل منها وقولبتها، بحيث ترى الجماعة نفسها، أي هويتها وخصوصيتها في مرآة الدولة، وليس العكس. مثال: بخلاف الأسطورة الشائعة، ليست الجماعةُ الفرنسيةُ فرنسيةً لأنها تتحدر من أرومة الأجداد الغال، بل لأن الدولةَ الفرنسية هي التي تُقوْلبُ، بوظائفها، جماعاتها وتتولّى أمرَ فرنستها، أي تدامجها ودمجها في الجسد الاجتماعي الضخم الذي تسيطر عليه.
لكل زمان أوهامه وأحلامه التي تتسرّب في داخل الحيِّز الاجتماعي، وتتسلل، كما العدوى، إلى النفوس والمشاعر والهمم؛ ولكل عصر أسئلته الكبرى التي تعاكس غالباً طموحات الجماعة وتصوراتها عن نفسها في التاريخ. وتدلّنا المعاينة التاريخية على أن ظهور شكل جديد من أشكال الحياة الجمعية، ارتبط دائماً بظهور نمط جديد من الناس (أي من القيم، والعلاقات والأوهام والأساطير... إلخ)، وأن تدهور هذه الأشكال ترابط بانقراض نمط صار خارج كل زمن.
A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.