24 أكتوبر 2024
في الدرس الإسباني
لم يكن أحد يتوقع في إسبانيا أن ينتهي ملتمس الرقابة الذي قدمته المعارضة، يوم 1 يونيو/ حزيران الجاري، بإسقاط رئيس الحكومة وزعيم الحزب الشعبي، ماريانو راخوي، وتعويضه بزعيم الحزب الاشتراكي العمالي، بيدرو سانشيث. حدثٌ خلط الأوراق وأعاد إلى الواجهة جانبا من النقاش العمومي في إسبانيا بشأن قضايا عديدة تصب، في معظمها، في الأزمة التي يعرفها النظام السياسي الإسباني منذ سنوات.
تعود أهمية هذا الحدث إلى أنه سابقة في تاريخ إسبانيا المعاصر. وإذا كان الدستور ينص، في المادة 113، على إمكانية أن يسحب مجلس النواب الثقة من رئيس الحكومة، وإجباره على الاستقالة، إلا أن الأسس التوافقية التي قامت عليها السياسة الإسبانية منذ أربعة عقود حالت دون استخدام مقتضيات هذه المادة، على الرغم من أن هناك ثلاث محاولات سابقة في هذا الصدد لم تُكلل بالنجاح (1980، 2017،1987).
بات واضحا لدى معظم مكونات الطبقة السياسية الإسبانية، وجزءٍ واسعٍ من الرأي العام، أن هذه السياسة أصبحت بحاجة لدماء جديدة، لا تقتصر فقط على القيادات والنخب والأحزاب، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في الأسس الأخلاقية للممارسة السياسية، بعد تفشي الفساد بشكل غير مسبوق في مؤسسات الدولة وأجهزتها.
تحول الفساد إلى أحد الميكانيزمات غير المعلنة للعمل السياسي في إسبانيا، ما أحدث ارتجاجاتٍ قويةً داخل المجتمع الإسباني، الأمر الذي جرَّ معه أسئلة ذات صلة بمستقبل الديمقراطية
الإسبانية، وهيكل القوة الاجتماعية والاقتصادية الذي يؤطرها. تَغوَّلَ الفسادُ في إسبانيا إلى درجة أنه أصبح، حسب بعضهم، قوة اجتماعية مؤثرة، نتيجة اصطفاف جزء من النخب السياسية إلى جانب الرأسمال، خصوصا داخل اليمين التقليدي. وجاءت قضية ''غورتل''، التي كشفت استفادة الحزب الشعبي من أموال تم تحصيلها بطرق غير مشروعة، لتصبح النقطةَ التي أفاضت الكأس، بعد تواتر فضائح الفساد داخل الحزب الحاكم.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال تأثير القضية الكتالونية، بكل تعقيداتها، على المشهد الإسباني خلال الشهور المنصرمة، فالأداء السيئ لحكومة راخوي، في إدارتها وتدبير منعرجاتها الدقيقة، كان أحد المفاتيح الأساسية في نجاح ملتمس سحب الثقة منها، وهو ما تجلى في تأييد الأحزاب الانفصالية الكتالونية والباسكية لهذا الملتمس. وعلى الرغم من فشل مسلسل الاستقلال في كتالونيا، إلا أن ذلك كان مكلفا للطرفين، خصوصا في الجانب الحقوقي، في ظل استمرار السلطات الإسبانية في اعتقال الناشطين الكتالان المؤيدين للاستقلال. وقد كان لإخفاق حكومة راخوي في اجتراح مداخل بديلة للتعاطي مع تحولات هذه القضية أثره البالغ في إحداث هذا الشرخ السياسي والاجتماعي والنفسي داخل المجتمع الإسباني.
وبقدر ما يُمثل إسقاط حكومة راخوي نجاحا للديمقراطية الإسبانية، بقدر ما يبدو ذلك دعوةً إلى تجديد الممارسة السياسية، في مختلف تبدِّياتها ذات الصلة بالطبقة الوسطى، والرأي العام، والمجتمع المدني، ومستقبل الدولة الإسبانية في ضوء تزايد النزعات الانفصالية.
أعاد ما حدث الاعتبار، نسبيا، لمؤسسة البرلمان في الديمقراطية الإسبانية، في ضوء ما يقال عن ضعفها وتراجعها أمام سطوة الرأسمال وتغوله، عبر شبكات فسادٍ داخل مختلف أجهزة الدولة. وقد كان لظهور قوى سياسية جديدة لم تنشأ في حضن اليمين واليسار بالغ الأثر في إدخال ثقافة سياسية جديدة إلى المشهد السياسي. وبالتالي، لم يعد ممكنا بالنسبة لمؤسسة، في حجم البرلمان، أن تستمر في التغاضي عن فضائح الفساد التي بات الرأي العام يعرف تفاصيلها.
في السياق نفسه، أكد الحدث الإسباني تزايد سلطة مواقع التواصل الاجتماعي على الفعل السياسي وتوجيهه، فحسب تقرير أعدته صحيفة "الباييس"، أظهر رصدُ أكثر من ستة آلاف تدوينة وتغريدة نُشرت على مختلف هذه المواقع يومي 31 مايو/ أيار و1 يونيو/ حزيران، قبل النقاش الذي جرى في البرلمان وبعده، أن هناك تأييدا واسعا لإسقاط حكومة راخوي، والتطلع نحو مرحلة سياسية جديدة تقطع مع الفساد. وكان واضحا التقاطُ ممثلي الأحزاب التي صوتت لملتمس حجب الثقة، هذه الإشارة من خلال متابعتهم المتواصلة للنقاش العمومي الموازي الذي جرى داخل هذه المواقع.
ويجعلنا الحدث الإسباني نستحضر حالتنا السياسية العربية، بما هي مختبر مفتوح لكل أشكال
الاستبداد والفساد والريع وسوء توزيع الثروة وغياب المصداقية عن المؤسسات السياسية. ولا مبالغة في القول إن أهم تحدٍ تواجهه مجتمعاتنا اليوم هو الفساد، ليس فقط باعتباره آفة تضر بالاقتصاد والاستقرار الاجتماعي والأهلي. ولكن، باعتباره، أيضا، التجلي الأبرز لذلك الزواج المشبوه بين الرأسمال والسياسة.
كما أنه، في الوقت الذي يُفترض أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلطةٍ موازية مضادة، تشكل جزءا من مدخلات السياسات العمومية، بما هي قياسٌ لما يحدث في الحياة اليومية للناس، تتعاطى السلطويةُ العربية، بمختلف أطيافها، مع هذه المواقع، بمقاربة أمنية بحتة، ولا تنظر إليها واجهة أساسية في إثراء النقاش العمومي، وتوجيه بوصلته، نحو هذا الاتجاه أو ذاك.
لم تتعظ معظم الأنظمة العربية من منعرج الربيع العربي، وبقدر انكبابها على توظيف مآلاته الدرامية في رص تحالفاتها الاجتماعية التقليدية في الداخل والخارج، بقدر انصرافها عن النظر في الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحراك الشعبي، وعدم التقاطها الإشارات التي ترسلها مجتمعاتها بين حين وآخر، رفضا للاستبداد والتحكم والفساد.
أهمية الحدث الإسباني في أنه يقدم نموذجا لبلد خاض واحدةً من أصعب معارك التحول الديمقراطي خلال القرن المنصرم، ونجح في بناء ديمقراطيته بكل إنجازاتها وإخفاقاتها. وها هو اليوم يضيف لبنة أخرى إلى معمار هذه الديمقراطية، من خلال جرأة مؤسساته ونخبه وقياداته، في مواجهة كل ما من شأنه أن يؤثر على هذه الديمقراطية، ويُجهز على مكتسباتها.
تعود أهمية هذا الحدث إلى أنه سابقة في تاريخ إسبانيا المعاصر. وإذا كان الدستور ينص، في المادة 113، على إمكانية أن يسحب مجلس النواب الثقة من رئيس الحكومة، وإجباره على الاستقالة، إلا أن الأسس التوافقية التي قامت عليها السياسة الإسبانية منذ أربعة عقود حالت دون استخدام مقتضيات هذه المادة، على الرغم من أن هناك ثلاث محاولات سابقة في هذا الصدد لم تُكلل بالنجاح (1980، 2017،1987).
بات واضحا لدى معظم مكونات الطبقة السياسية الإسبانية، وجزءٍ واسعٍ من الرأي العام، أن هذه السياسة أصبحت بحاجة لدماء جديدة، لا تقتصر فقط على القيادات والنخب والأحزاب، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة إعادة النظر في الأسس الأخلاقية للممارسة السياسية، بعد تفشي الفساد بشكل غير مسبوق في مؤسسات الدولة وأجهزتها.
تحول الفساد إلى أحد الميكانيزمات غير المعلنة للعمل السياسي في إسبانيا، ما أحدث ارتجاجاتٍ قويةً داخل المجتمع الإسباني، الأمر الذي جرَّ معه أسئلة ذات صلة بمستقبل الديمقراطية
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال تأثير القضية الكتالونية، بكل تعقيداتها، على المشهد الإسباني خلال الشهور المنصرمة، فالأداء السيئ لحكومة راخوي، في إدارتها وتدبير منعرجاتها الدقيقة، كان أحد المفاتيح الأساسية في نجاح ملتمس سحب الثقة منها، وهو ما تجلى في تأييد الأحزاب الانفصالية الكتالونية والباسكية لهذا الملتمس. وعلى الرغم من فشل مسلسل الاستقلال في كتالونيا، إلا أن ذلك كان مكلفا للطرفين، خصوصا في الجانب الحقوقي، في ظل استمرار السلطات الإسبانية في اعتقال الناشطين الكتالان المؤيدين للاستقلال. وقد كان لإخفاق حكومة راخوي في اجتراح مداخل بديلة للتعاطي مع تحولات هذه القضية أثره البالغ في إحداث هذا الشرخ السياسي والاجتماعي والنفسي داخل المجتمع الإسباني.
وبقدر ما يُمثل إسقاط حكومة راخوي نجاحا للديمقراطية الإسبانية، بقدر ما يبدو ذلك دعوةً إلى تجديد الممارسة السياسية، في مختلف تبدِّياتها ذات الصلة بالطبقة الوسطى، والرأي العام، والمجتمع المدني، ومستقبل الدولة الإسبانية في ضوء تزايد النزعات الانفصالية.
أعاد ما حدث الاعتبار، نسبيا، لمؤسسة البرلمان في الديمقراطية الإسبانية، في ضوء ما يقال عن ضعفها وتراجعها أمام سطوة الرأسمال وتغوله، عبر شبكات فسادٍ داخل مختلف أجهزة الدولة. وقد كان لظهور قوى سياسية جديدة لم تنشأ في حضن اليمين واليسار بالغ الأثر في إدخال ثقافة سياسية جديدة إلى المشهد السياسي. وبالتالي، لم يعد ممكنا بالنسبة لمؤسسة، في حجم البرلمان، أن تستمر في التغاضي عن فضائح الفساد التي بات الرأي العام يعرف تفاصيلها.
في السياق نفسه، أكد الحدث الإسباني تزايد سلطة مواقع التواصل الاجتماعي على الفعل السياسي وتوجيهه، فحسب تقرير أعدته صحيفة "الباييس"، أظهر رصدُ أكثر من ستة آلاف تدوينة وتغريدة نُشرت على مختلف هذه المواقع يومي 31 مايو/ أيار و1 يونيو/ حزيران، قبل النقاش الذي جرى في البرلمان وبعده، أن هناك تأييدا واسعا لإسقاط حكومة راخوي، والتطلع نحو مرحلة سياسية جديدة تقطع مع الفساد. وكان واضحا التقاطُ ممثلي الأحزاب التي صوتت لملتمس حجب الثقة، هذه الإشارة من خلال متابعتهم المتواصلة للنقاش العمومي الموازي الذي جرى داخل هذه المواقع.
ويجعلنا الحدث الإسباني نستحضر حالتنا السياسية العربية، بما هي مختبر مفتوح لكل أشكال
كما أنه، في الوقت الذي يُفترض أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلطةٍ موازية مضادة، تشكل جزءا من مدخلات السياسات العمومية، بما هي قياسٌ لما يحدث في الحياة اليومية للناس، تتعاطى السلطويةُ العربية، بمختلف أطيافها، مع هذه المواقع، بمقاربة أمنية بحتة، ولا تنظر إليها واجهة أساسية في إثراء النقاش العمومي، وتوجيه بوصلته، نحو هذا الاتجاه أو ذاك.
لم تتعظ معظم الأنظمة العربية من منعرج الربيع العربي، وبقدر انكبابها على توظيف مآلاته الدرامية في رص تحالفاتها الاجتماعية التقليدية في الداخل والخارج، بقدر انصرافها عن النظر في الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحراك الشعبي، وعدم التقاطها الإشارات التي ترسلها مجتمعاتها بين حين وآخر، رفضا للاستبداد والتحكم والفساد.
أهمية الحدث الإسباني في أنه يقدم نموذجا لبلد خاض واحدةً من أصعب معارك التحول الديمقراطي خلال القرن المنصرم، ونجح في بناء ديمقراطيته بكل إنجازاتها وإخفاقاتها. وها هو اليوم يضيف لبنة أخرى إلى معمار هذه الديمقراطية، من خلال جرأة مؤسساته ونخبه وقياداته، في مواجهة كل ما من شأنه أن يؤثر على هذه الديمقراطية، ويُجهز على مكتسباتها.