في الحاجة إلى لحظات فارقة

15 فبراير 2015

تتلاحق مشاهد أخرى تزعزع قناعتنا (Getty)

+ الخط -

قد يبدو كل زمن فارقاً بالنسبة لمعايشييه. ولذلك، لا تكتسب قناعتنا بأننا نعيش زمناً فريداً أي قيمة موضوعية، لأننا، ببساطة، لم نعش زمناً غيره، إلا أننا قادرون، بطريقة أو بأخرى، على تقطيع زمننا إلى مراحل وحقب وأحداث، فنرى أحدها فارقاً فريداً بما يمنحه قيمة أكبر من بقية الأحداث والفترات والمراحل. وبلا شك، إن عيش المرء حرباً، أو ثورة، أو متتالية انتفاضات وانقلابات، لا يحدث دوماً، ولا هو أمر في خانة الاعتيادي، إنما هي مراحل فريدة، وتكثيفها الذي نعيشه، اليوم، يبدو مربكاً إلى حد بعيد.

إن عيش حقبة تتلاحق فيها الأحداث الفارقة، خصوصاً في ظل طفرة إعلامية وتوثيقية غير مسبوقة ولا متخيلة، يحيلنا إلى موقع المتفرجين. إن صالة العرض الضخمة المنصوبة أمامنا، والحافلة بكل جديد، تضعنا من دون تخطيط أو إرادة في مقعد المشاهد. ومن ذاك المقعد، نرصد كل ما يجري أمامنا، وحين نعتقد أن هذا المشهد تحديداً هو الفارق والنوعي، تتلاحق مشاهد أخرى، تزعزع قناعتنا، وتعدنا بالأكثر أهمية ونوعية.

في مرحلة قريبة ماضية، أقل ازدحاماً بالأحداث، وأبعد عن السطوة الإعلامية، لطالما كانت أحداث بعينها ومشاهد محددة ومواقف مرصودة، بمثابة محكّات نادرة، تدفع بنا من موقع المعايش المراقب، إلى موقع الفاعل الملتحم. صورة أو مشهد أو حادثة تقنعنا أن موقع المشاهد والمتفرج لا يليق بنا. لذلك، نندفع للفعل والعمل، معتبرين ذاك المشهد، أو تلك الحادثة، بمثابة لحظة فارقة في وعينا وموقفنا في الحياة.

يبدو، اليوم، أننا وفي خضم كل هذا الأحداث الفارقة المتزاحمة، نشهد نذر نهاية زمن الأحداث الفارقة، المؤسِسة لجديد في حيواتنا. لم تعد هنالك صورة تختلف أمامنا الدنيا حين نشاهدها. لم تعد حادثة القتل الشنيعة الممسرحة لحظة فارقة، لأن القتل الارتجالي المنتشر لا يقل عنها شناعةً، ويحدث كل حين. لم تعد قصة الأسير الذي قضى تحت التعذيب حدثاً فارقاً، لأننا لا نعرف عدد المسجونين، ولا أسماءهم، ولا يغدو انتحار شاب لحظة مؤسسة لوعي جديد، لأن المنتحرين تكاثروا، واستبقوا موتاً يقرره لهم الآخرون.

إن التفكير في مخرج من حالة طغيان الوفرة، وضيق مقعد المشاهد وبؤسه، قد يكون في التمسك بأحداث خاصة مؤسسة، بالإمساك بها بكل قوة، ووضعها في موقع عزيز في دواخلنا، مع الحرص على حمايتها، وتحصينها من تتابع الأحداث والمشاهد، وقد يكون برفعها إلى منزلة عليا في الوعي والعاطفة، وتذكير النفس مراراً أن اعتياد حدث كهذا، هو البؤس بعينه. الحل ربما هو في الإيمان بأن مشهد الطفل يموت بين يدي أبيه هو حدثنا المؤسس، وأن نحول الفتاة وراء القضبان هو لحظتنا الأهم، وأن مطالعة الأمهات لقوائم الضحايا على أبواب المستشفيات، لحظة لا يمكن أن تكون الحياة بعدها كالحياة قبلها.

قد يسهل اعتبار الحديث، هنا، دعوة لاندفاع عاطفي غير عقلاني للفعل، على وقع حوادث تحفر في النفس وعواطفها الرخوة، إلا أن الاستسلام لطغيان الوفرة الإعلامية، والرضى بموقع المشاهد المتفرج الذي أعده لنا الآخرون، والفقدان التدريجي لحساسية أي موقف فارق أخلاقياً ونفسياً هو موقف غير إنساني، ناهيك عن كونه غير عقلاني أيضا.

وبقليل من المخاطرة، يمكن القول إن عجز أحدنا عن الإتيان بموقفٍ، أو حدثٍ، أو مشهدٍ، لم تعد بعده الحياة كما كانت، يبدو حمّال دلالات كثيرة، أقلها أنه يعيش عيشة مفارقة لهذا الزمن الحافل، أو أن مقعد المشاهد توسع ليغدو حياة كاملة. واللافت أن التمعن في أحوال الفاعلين في قضايا بعينها يكشف أنهم بالتأكيد يعرفون لحظاتهم الفارقة، وانشغلوا بالعمل حيالها عن المشاهدة والاعتياد.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين