في الجزائر: الشجرة تغطي الغابة!

09 فبراير 2015
تساؤلات حول الفوائض المالية للجزائر من النفط (العربي الجديد)
+ الخط -
الاطلاع على تجارب الدول العربية والإسلامية في مجال استغلال الفوائض المالية يبيّن أن عدداً معتبراً ‏من هذه الدول أحسن إلى حد ما استغلال أمواله، ولكن عند النظر إلى الأموال التي جناها الاقتصاد ‏الجزائري، لا يمكن سوى طرح السؤال التالي: أين صرفت هذه الفوائض، وما هي المشاريع التي أنجزت، وتلك التي ضُيّعت، ‏وما هو حجم الفساد الذي طال هذه الأموال الضخمة؟ كلها أسئلة من حق كل واحد منا أن يسألها وأن ‏يكون له الجواب الكافي والشافي عنها، غير أن الذي حصل ويحصل في بلادنا أننا لا نجد جواباً عن هذه ‏الأسئلة إلا عندما نسمع بفضائح الفساد التي يكشف عنها الفاسدون أنفسهم. إذ إن كل واحد يمسك للآخر ‏ملفاً، يلوّح به ويستخدمه عند الضرورة، وأحيانا يُستخدم لإشغال المعنيين عن قضايا أكبر، ليصبح الحال كالشجرة التي تغطي الغابة.‏ 
في كل مرة نسمع ونقرأ عن قضايا فساد اكتشفتها أجهزة الأمن المختلفة ودخلت أروقة المحاكم، لكن ‏العجيب أن الكشف عنها يكون بعد الخراب الذي تسببت به. والغريب أنك تجد أن الفاسد الذي نخر في جسد ‏المال العام ويعيث فيه فساداً، ينتقل من منصب إلى منصب. وكأن الفساد درجات.‏
قضايا فساد كبرى خرجت رائحتها إلى الشارع ووصلت إلى الرأي العام، منها تلك القضية الكبرى ‏التي طالت الطريق السيار، وهو "مشروع القرن" كما سمته الجهات الرسمية في البلد، حيث لم نسمع باستقالة ولا ‏إقالة المسؤول الأول عن القطاع آنذاك الوزير عمار غول، ولا حتى استقالة المسؤولين الذين هم أقل منه ‏مستوى. بل حتى عندما تعرض القضية أمام العدالة بمختلف مستوياتها تعالج ببطء شديد لا يعكس حجم ‏القضية ولا حجم الفساد الذي تخفيه ولا حتى حجم الخسارة التي تكبدتها الخزينة العمومية.
الانطباع نفسه ينتابك وأنت تتابع قضية شركة "سوناطراك"، هذه القضية التي كان بطلها الوزير المكلف بالقطاع ‏والذي كان سبباً في الخراب الذي لحق بأكبر مؤسسة يرتكز عليها اقتصاد الجزائر. هنا نجد كيف كان المسؤول ‏الأول عن القطاع، أي وزير النفط السابق شكيب خليل هو الفاسد الأكبر واللاعب الأساسي فيها، وكيف ماطلت الجهات ‏المعنية ومنحته الفرصة للهرب للخارج تاركاً خلفه قضية بمليارات الدولارات تلاعب بها مع الفاسدين. وكيف يحدث التعديل الوزاري من أجل وضع مسؤول جديد على رأس العدالة ليحاول بل ‏يكلف بإخماد القضية لعل الشعب ينساها.‏
السيناريو ذاته يتكرر مع فضيحة العصر في تاريخ الجزائر المعاصر، تلك الفضيحة التي كانت ضحيتها ‏منظومتنا المصرفية التي تغلغل فيها الفساد وأنتج بنك الخليفة الذي استمر استنزافه وتهريبه لأموال الجزائريين ‏المودعة عنده لسنوات. وبعد مخاض شديد جُلب فاسد القرن في بلادنا ليحاكم أمام الشعب عما ‏اختلسه. وفي كل مرة تتعطل القضية التي درسها وتعمق فيها القضاة لسنوات، ‏بعد أن بقي هذا الفاسد هاربا بعيدا عن يد العدالة الجزائرية. وعندما تبحث تجد أن هذا الفاسد تُرك له ‏المجال آنذاك ليهرب بعدما نهب ما لا يقل عن ملياري دولار، مخلفا أمواتاً ومجانين ومرضى مزمنين وأغنياء ‏أصبحوا فقراء في رمشة من عين.‏
الأعجب والأغرب في جزائر القرن الواحد والعشرين أنك ترى قطاعات أخرى تتعرض للنهب ‏واستنزاف أموال الأمة دون حسيب ولا رقيب. وحتى عندما يصدر تقرير الرقيب فبعد سنوات، يكون فيها المعنيون أو الشهود قد توفوا. وكأننا نقول لكل من كان معنياً من قريب أو بعيد عن قضية فساد: اطمئن إذا لم ‏تتمكن من الهرب سنترك لك المجال لتعيش معززاً مكرماً ما تبقى من عمرك ثم بعد ذلك تطوى القضية لوفاة ‏المعنيين أو لوفاة الشهود، أو لأسباب أخرى واهية.‏
أما الفواتير في المشاريع فهي تتضخم على الأقل أربع مرات، بل إننا عندما نوظف الخبراء والمتخصصين عندنا من ‏الأوروبيين نعطيهم أضعافا مضاعفة ما يحصلون عليه في بلادهم. وعندما تتعمق في الأمر أكثر تكتشف أن التضخيم في الفواتير أحياناً يتم بشكل رسمي وبإشراف الحكومة.
الأمر لا يتوقف عند الفواتير المضخمة بل يمتد إلى عمليات تحويل العملة الصعبة للخارج بطرق مشبوهة، ‏تصل قيمتها في فترة أشهر قليلة إلى حدود 30 مليار دولار، هنا تصدم بل تكاد تجن. نفس الشيء يقال عن فاتورة ‏دوائنا وغذائنا التي تضاعفت مرات ومرات في فترة لم تتجاوز العشر سنوات.
لكن، مهما طال الزمن أو قصر فإن الحقيقة سيكشفها ‏التاريخ ولن يستر فضائح اقتصاد بلد أنفق 800 مليار دولار، فما زاد إلا التخلف على تخلفه.
(محلل اقتصادي جزائري)
المساهمون