في الجدل حول محمد شحرور
كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية.
مقدمة
دعوت، في عام 1992، محمد شحرور ليقدِّم محاضرة تعريفية بكتابه "الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة" في كلية الطب في جامعة دمشق، وأترك هنا موضوع الترتيبات والتكتيكات التي حصلت آنذاك لإقناع المسؤولين في الجامعة بالسماح بذلك إلى مناسبة أخرى؛ فقد كان الإقناع عمليةً معقدةً، ويصعب تخيّل طرح مثل العنوان هذا في جامعة دمشق. مع ذلك، ألغت الأجهزة الأمنية المحاضرة في اليوم المقرر لها، لكن المهتمين بالحضور جاؤوا بأعداد كبيرة جدًا كونهم لا يعرفون بإلغائها، وحصلت فوضى كبيرة آنذاك، فما كان من رجال الأمن والحزب إلا أن أخرجوا الحضور، ومنعوا شحرور من الوصول إلى مكان المحاضرة، ووضعوه في غرفة مجاورة. بعد الحادثة، جرت استدعاءات أمنية عديدة، لكنها في الحصيلة مرت على خير مع تحذيرات عالية الشدة لي.
أُسجِّل هنا حديث شحرور لي بعد إلغاء المحاضرة: "يبدو أن إلغاء المحاضرة سيكون مفيدًا
أكثر من عقدها"، وهذا ما حصل، إذ بدأ ناسٌ كثيرون يسألون عن الكتاب والمؤلف، وهذا ما سعيت له، فقد كنت على علم مسبّق بإلغاء المحاضرة قبل أربعة أيام، إلا أنني لم أبلِّغ أحدًا.
في ذلك الوقت، خاطر شحرور بقبول الدعوة لإلقاء محاضرته في الجامعة، بقدر مخاطرتي في ترتيبها وتحمّل مسؤوليتها، في بلد أمني تصعب فيه المشاركة في مثل النوع هذا من النشاط علنًا، بل وفي الجامعة التي يحرسها النظام. بعد ذلك، دعوته وعرّفته بأوساط المعارضة، ولم يمانع، وقدّم ندواتٍ شارك في أغلبها مثقفون وسياسيون قوميون ويساريون معارضون. وفي عام 2000، بعد رحيل حافظ الأسد، كان شحرور معنا ضمن الأمانة العامة لمنتدى الأتاسي
للحوار الديمقراطي، وهو المنتدى الرئيس الذي كانت تُعقد فيه ندوات لمعارضين سوريين.
غربة اليساريين والإسلاميين
عارض يساريون وإسلاميون كثيرون عقد ندوات لمحمد شحرور في ذلك الوقت، كلٌ لأسبابه. اليساريون يتحسَّسون من كل ما له علاقة بالإسلام عمومًا، بعضهم رفضه استنادًا إلى أنه تجاوز هذا النوع من الفكر، على الرغم من أن أغلبيتهم لم يقرأوا كتابه، وبعضهم تخوَّف من أن يكون للإسلام الذي ينادي به شحرور صدىً، وخشي أن يؤدّي ذلك إلى تشكل قناعة عند الناس بأن "الإسلام هو الحل". أما الإسلاميون فقد أصيبوا بالحرج والاستفزاز من مقولاته، وبعضهم خاف من تشويه الإسلام على يديه كما قالوا، وبعضهم خاف على فقدان مواقعه وحظوته في المجتمع بين الشباب. كان هاجسي من عقد هذه الندوات آنذاك البحث عمّا يمكن أن يجذب الناس إلى حوار عام حول شؤون الدين والدنيا في بلدٍ لم يعهد الحوار منذ زمن بعيد،
بدلًا من ممارسة السياسة في الغرف المغلقة، كما هو حال المعارضة آنذاك.
على العموم، يعاني يساريون وإسلاميون كثيرون الغربةَ لأن الواقع غائبٌ في حسابات الطرفين؛ فاليساريون معظمهم لا ينفكّون يحتمون بنصوصهم هم أيضًا، ويتعاطون معها بقدسيةٍ تسلب العقل، وتمنعه من رؤية الواقع، أو تجعله يهوِّن من بلايانا الحقيقية، ناظرًا إليها باستخفاف، ما يجعلهم في الحصيلة يتعاملون بازدراء تجاه الدين أو بوضعه خلف ظهورهم، وكأنهم بهذه الطريقة يحلّون المشكلة. وفي المآل، وبالضرورة، يغيب عنهم الواقع، ويكونون غير قادرين على فهم مجتمعهم وكيفية التأثير فيه. وهم ما زالوا لم يبتكروا خطابًا ملائمًا يعيد إنتاج ما ابتكره الغرب من علم وفكر وفلسفة في بيئتنا التقليدية والمتأخرة، وما زالوا يعتقدون أنه يمكن لهم، عبر أفكار ومقولات سطحية وساذجة، أن يهزّوا عرش الدين، ما يشير فعلًا إلى حالةٍ قاتلةٍ من السطحية وعدم النضج والمراهقة الفكرية، فضلًا عن غربتهم عن واقع مجتمعاتنا القائمة على اقتصاداتٍ ريعيةٍ، يغيب فيها العمل المنتج، ويكثر فيها حديث المعتقدات والأيديولوجيات.
كذلك، يعيش الإسلاميون، عمومًا، في الماضي أكثر من الحاضر، والواقع المتغيِّر غير مدرج في حساباتهم، وترفض أكثريتهم أي حوار يتعلق بإعادة النظر في التفاسير القرآنية الموروثة. ما زالوا يردِّدون نشيد التراث، وينهلون من علمه ومقولاته بعيدًا من الواقع ومنطق العصر، ولمّا يشعروا بعد بحجم قضية الإسلام والمسلمين في أوطانهم، من حيث علاقته بالدولة والفئات غير الإسلامية، ومشكلته في العالم من حيث نظرة الآخر إليه، خصوصًا بعد أن جرى تنميط الإسلام والمسلمين في العالم، وشيوع ربطه بالعنف جهلًا أو مكرًا. هم يقبلون بنهم على المنتجات التكنولوجية فحسب، يرغبون في ثمار الشجرة ولا يسألون عن جذرها؛ جذرها الفلسفي والفكري والعلمي. وفي أحسن الأحوال، يجمعون الماضي والحاضر في عقل واحد، لكن من دون دمج أو بناء رؤية متكاملة؛ فيستخدمون الماضي وعقله في أمورهم الدينية والاجتماعية والحياتية، ويستخدمون علوم الحاضر في وظائفهم وأعمالهم. وعلى الرغم من الحضور القوي للإسلاميين في الواقع كميليشيات وتنظيمات مسلحة، إلا أنهم يزدادون هامشيةً من حيث إنتاجهم في الفكر والاقتصاد والعلم في العالم.
هشاشة الدفاع والنقد
وصل محمد شحرور في قراءته المعاصرة، على المستوى السياسي، إلى نتائج تتوافق مع بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، ومثله فعل جودت سعيد، وآخرون، على الرغم من اختلاف مناهج قراءة كل منهم، وهذا يجعله قريبًا، على المستوى السياسي، من الذين ينشدون الهدف السياسي ذاته. هذا شيء، والاتفاق أو الاختلاف مع منهجه وتفسيره وفكره، شيء آخر.
هذا الاتفاق على النتائج، وهو ظاهري بالطبع، جعل "يساريين" كثيرين يدافعون عن مشروعه في وجه الإسلاميين دفاعًا فكريًا، لا سياسيًا، من دون أن يقرأه قراءة دقيقة وتفصيلية ومتأنية، وكان دفاعه هذا في معظمه سطحيًا، ويدلِّل على مراهقة فكرية، وهذا خطأ كبير.
قلت لشحرور إن تأثير أفكارك في واقع اليوم سيكون محدودًا، وأفكارك مرغوب فيها عند من
هم ليسوا في حاجة إليها، أو عند من شقّوا عصا الطاعة لرجال الدين. وهي مرفوضة، من دون قراءة أو اطلاع، عند من هم في حاجة إليها، أولئك الذين أخذوا الدين عن رجال الدين فحسب. ما كتبتَه يحتاج إلى جهد كبير للتعاطي معه، سواء لجهة الاقتناع به أو لجهة نقده وتفنيده، ومعظم الناس يختارون الأسهل والواضح والنتائج المباشرة. ما يقوله التراثيون سهل الوصول، بينما ما تقوله تقف دونه عقبات كثيرة.
لا ينفع تقديم ما أنتجه شحرور في فيديوهات وحلقات تلفزيونية، على طريقة الوجبات السريعة، وهذا خطأ كبير وقع فيه، لأسباب عدة: أولها إن المنهج الذي اعتمده اختصاصي جدًا، ولا يمكن لأي شخصٍ أن يتقبله أو ينتقده ما لم يتوافر لديه اطلاع كافٍ على اللغة العربية وأسرارها. وثانيها أن شحرورًا كان يقدم النتائج الصادمة التي توصل إليها لا المنهج، وهذا ما تتيحه مثل هذه الوسائل، بمعنى أنه قدّم ما لديه فيها بطريقة مختزلة وسطحية. وثالثها أن شحرورًا نفسه يفتقد إلى الكاريزما المطلوبة إعلاميًا لإيصال فكرته، ويزيد على ذلك لغته في الكلام المتخمة بالأخطاء في اللغة العربية (هناك كثيرون يكتبون جيدا لكنهم يتحدثون بشكل سيء في الوقت نفسه، وهناك كثيرون يقعون في حالة معاكسة، وقلائل من يتقنون الجانبين، أي الكتابة والحديث معًا). ورابعها أنه لا يمتلك المهارة والتكتيك اللازمين لإيصال أفكاره تدريجًا، والانتقال من أفكاره المركزية إلى الأفكار الثانوية أو النتائج، مثل طرحه المختزل قضية لباس المرأة التي عادة ما تثير استفزازًا كبيرًا لدى الإسلاميين. وخامسها أن اطلاعه ضعيف أو غير كافٍ على التراث الديني الذي يشكِّل دعامة فكر منتقديه، فلا يكفي أن يكون للمرء مشروعه، بل ينبغي له معرفة مشروعات الآخرين في الماضي والحاضر، ليعرف كيف يفكرون ويناقشون.
مبادئ
قبل نقاش مشروع شحرور، نحتاج إلى الاتفاق على جملة من المبادئ، وهي تنفع لنقاش المشروعات كلها، مع بعض الخصوصية لمشروع شحرور بالطبع، ومنها:
القراءة المعاصرة؛ ينبغي للمسلمين الاعتراف بضرورة إجراء قراءة معاصرة للإسلام
دائمًا، وهذه مبدؤها قراءة النص القرآني، استنادًا إلى الواقع الحاضر واستكشافاته وحاجاته ومشكلاته، بصرف النظر عن القراءة المعاصرة لشحرور. إذا لم تُجر القراءة هذه فلا معنى لقول المسلمين "القرآن صالح لكل زمان ومكان"، ولا فضيلة لشيوخ الإسلام ومفكّريه إذا كان جلّ عملهم يرتكز على نقل ما قاله الآخرون فحسب في زمنٍ مضى.
على الرغم من الضجيج الذي يُثار حول "المجدِّدين" في كل مرة، إلا أن ذلك يتيح لنا الإقرار، على الأقل، بأن مسألة تحقيق التوافق بين الإسلام والعصر ضاغطة بقوة على العقل في المنطقة. وهذا الضجيج لا يُثار حول شخص مجدّد بعينه، بل حول كل من يقدِّم قراءة مغايرة للقراءات الموروثة وقراءات المشايخ، أي أن الإسلاميين يستثيرهم مبدأ القراءة المعاصرة أولًا بصرف النظر عن كاتبها. وثمّة أسماء عديدة في المجال هذا تعرضوا لنقد شديد وحصار وتضييق وتشهير في زمانهم، ومنهم جمال الدين الأفغاني، عبدالرحمن الكواكبي، الشيخ محمد عبده، علي عبدالرازق، مصطفى العقاد، نصر حامد أبو زيد، مالك بن نبي، وغيرهم كثر.
الواقع، بظواهره كلها، حجر أساس في أي تفسير حديث للقرآن، إذ لا يمكن استنباط الحقيقة من النص القرآني وحده، ما يعني أن قارئ/ أو مفسِّر القرآن والإسلام الذي يعيش في الوقت الحاضر ينبغي له أن يستخدم عينين اثنتين في قراءته، عين على النص القرآني وأخرى على الواقع المعاصر. يقول الإمام علي بن أبي طالب: "القرآن لا ينطق، وإنما ينطق عنه الرجال"، ما يعني أن تفسير القرآن سيختلف بدرجة باختلاف رجالات الزمان. هل من العقلانية أن تكون قراءة المسلمين للقرآن اليوم متطابقةً مع القراءات الموروثة من عصور خلت؟ ألا يوجد تأثير للواقع الحديث وعصر الثورة العلمية في فهم المسلمين القرآن؟
الوعي الديني المحافظ أو التراثي عقبة حقيقية أمام إعادة النظر في فهم الأسبقين، وهو يضع المسلمين خارج الواقع وتغيراته، مستخدمًا ذرائع وتبريرات عديدة، فضلًا عن أنه يسجنهم في أطر محلية مقطوعة الصلة بالكونية، لتنمو وتتكرس الأوهام حول الذات والآخر، وينتعش خطاب الخصوصية ذو اللغة الأحادية، بدلًا من التعويل على التفاعل المثري مع العالم في بناء خصوصيات وهويات حضارية ومتجدِّدة يُعتدّ بها. لا أحد يستطيع القطيعة مع الماضي، لكن القطيعة مع فهمٍ معين للماضي ممكنة ومشروعة وشرط رئيس للتقدّم.
ضرورة الإصلاح الديني؛ لا يمكن إنكار أن الإسلام والمسلمين في مشكلة منذ زمن بعيد، وقد استفحلت خلال العقدين الماضيين مع العولمة والتفاعل الكثيف بين الثقافات، وظهورنا عرايا أمام قوة الآخر وجاذبيته. نعم، الإسلام في مشكلة، وهي ليست ناتجةً من رؤية الغرب
إليه فحسب، بل أساسًا من رؤيتنا إليه، ويمكننا طرح عدد كبير من الإشكالات أو المشكلات المتعلقة به اليوم: الدين والدولة، الدين والسياسة، مسألة استغلال الإسلام في ممارسة الإرهاب، علاقة المشايخ بالسلاطين، مسألة الإفتاء والاجتهاد... إلخ. وتتطلب هذه المشكلات إصلاحًا دينيًا بصورة أكيدة، ومن دونه سيظل الإسلام والمسلمون مشكلة في العالم، وفي بلاد المسلمين.
يُفترض أن تكون الصورة القاتمة عن الإسلام في عالم اليوم حافزًا لنا لعمل نقدي دائم تجاه الموروثات من جهة، ولعمل بنائي من حيث استكشاف دور الإسلام ووظيفته في ظل المتغيرات الكثيفة في البشر والواقع من جهة أخرى، لا أن نستند إلى ردة الفعل ذاتها التي حصلت في أواخر القرن التاسع عشر، فننزوي وننغلق على ذواتنا تحت شعارات برّاقة "محاربة الغزو الثقافي"، "الحفاظ على الهوية"، "محاربة التغريب"، فيما هي تخفي في الحقيقة خوفنا وعقمنا وعدم جدارتنا بالحياة في القرن الواحد والعشرين.
عدم القداسة؛ من المهم النظر بطريقة متوازنة إلى نتاج الفقهاء والمفكرين الإسلاميين في العصور التي خلت، فهي لا تحتاج منا إلى التقديس أو التدنيس، بل إلى القراءة والنقد والهضم والتجاوز. هناك نتاجاتٌ كانت تصبّ في خدمة السلاطين والسياسة، ولكن هناك قراءات أخرى مجتهدة، حاولت أن تصوغ فهمًا للنص متوافقًا مع معارف ذلك العصر.
عمومًا، هذا النتاج ابن زمانه ورجاله، لذا من المهم رفع القداسة عنه، فهو من صنع البشر، ونقده أحد وجوه تقديره. من البديهي القول إذًا إن التفاسير القرآنية ليست صالحةً لكل زمان ومكان، وهي ابنة زمانها ومكانها وعقول منتجيها، وهذا ينفي عنها صفة الثبات، ويجعلها محطّ مراجعةٍ دائمةٍ لاستبعاد ما فات أوانه منها، والاستفادة من الذي ما زال صالحًا منها، خصوصًا أن بعض رجال الدين، ومن ورائهم السلاطين، أسهم في تحنيط الإسلام في قوالب جامدة ومغلقة تتوافق مع مصالحهم.
وقف كثيرون من مشايخ الدين في الماضي ضد الغناء والموسيقى، بوصفهما أدوات للفسق والفجور، ووقفوا ضد التصوير والرسم، لكنهم عادوا وتوافقوا مع هذا كله بحكم ضرورات الواقع. ما يقوله رجال الدين نسبي، غير مقدّس، وكثيرًا ما غيروا آراءهم عبر الزمن، ونذكر كيف وقفوا ضد دخول التلفزيون إلى حياتنا، بوصفه مفسِدًا، حتى أن بعضهم أطلق عليه اسم "الأعور الدجال"، لكنهم أقرّوا بوجوده فيما بعد، وأصبحوا لا يغادرونه، وأُنشئت قنوات خاصة بهم، وفعلوا الشيء نفسه مع دخول الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية.
عدم التكفير؛ يُفترض التعاطي مع مسألة إيمان الفرد استنادًا إلى تعريفه نفسه، لا إلى ما يراه الآخرون أو يفهمونه (مبدأ "أفشققت عن قلبه")، أي ليس من حق أحد التعامل مع أي فرد إلا من خلال ما يعلنه ويكتبه ويعبر عنه صراحة، ولا يمكن أن تُنزع صفة المسلم عن شخص ما إلا بإعلانه هذا شخصيًا. ومعنى ذلك أن تكفير أي فرد ليس من حق أحد، فردًا كان أم مؤسسة أم سلطة، وهو تجاوز وتعدٍ كبيران وخطيران على حقوق الفرد.
جرى، في الماضي، تكفير فلاسفة ومفكرين كثيرين، وأُطلقت عليهم صفات عديدة لم يعلنوها أو يتبنوها (زنديق، كافر، ضالّ، ملحد، ... إلخ)، مثل أبي العلاء المعري وابن خلدون وابن رشد
والحلاج والسهروردي وجمال الدين الأفغاني، وغيرهم. الطبري مثلًا، إمام المفسِّرين، أهدر عددٌ من رجال الدين دمه، وهيّجوا عموم الناس ضده. وفي الزمن المعاصر، هناك عشرات الأسماء التي كُفِّرت في البدايات، ثم أصبحت نقاطًا مضيئة في حقول معرفتها لدى قطاع واسع من الناس، مثل طه حسين، نزار قباني، علي عبد الرازق، نجيب محفوظ، صادق جلال العظم، نصر حامد أبو زيد، وغيرهم. ولا ينبغي أن نجعل من التكفير سلاحًا نرهب به الناس، ولا أن نبني سورًا مغلقًا حول الإسلام، وكأن تفسيره اكتمل وانتهى في الماضي، وما علينا نحن إلا التنفيذ، ففي هذا احتقار لعقل الإنسان الذي كرمته الأديان جميعها.
مبدأ حرية الآخر؛ بما أن الإيمان حق للفرد، والمسؤولية في حالتي إيمانه وكفره تقع على عاتقه وحده، وليس لأي فرد أن يكون وصيًا على هذه الحقوق، وكلام الله واضح جدًا في هذا الشأن "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، إلا إذا كان ما يريده بعضنا هو الإيمان جبرًا أو نفاقًا. إما أن تكون هناك حرية رأي وفكر وتفكير أو لا تكون.
ليست مشكلتنا في الاختلاف أو الاتفاق مع شحرور أو غيره، فهذا طبيعي ومفيد، بل في أننا غير صادقين عندما نعلن تقبلنا الآخر المختلف، فليس هناك ما هو أسهل علينا من وضع أنفسنا في مقام رب العالمين، وتوزيع صكوك الجنة والنار على الناس، ما يؤدي إلى إشاعة حالة من الرّهاب الفكري التي تمنع أي شخص من التجرؤ على طرح أفكاره، لنبقى سعداء بما لدينا وما ورثناه في الحصيلة، على الرغم من أنه لم ينتج ثمرًا ولا بنى إنسانًا أو وطنًا. أما تسطيح الظواهر الفكرية بحصر نقاشها في جواز لعن الكاتب والتشفي بموته أو عدم جوازه، فإنه لا يفيد إلا في التغطية على المسائل التي تحتاج حقًا إلى حوار واجتهاد، وفي بناء استقطابات وهمية معيقة تقوم على أسس سطحية.
النقد والتراكم والحوار المفتوح؛ نقد شحرور، ونقد التراث، ونقد أفكارنا كلها، ضرورة؛ فالنقد بوابة لتطوير وإنضاج أي مشروع، ولتمييز الوهم والزيف من الحقيقي والجادّ فيه. ولكن للنقد شروطه ومعاييره، منها: المعرفة والموضوعية وأخلاقيات وآداب النقد. ويفترض عدم
التعامل مع أي مشروع فكري أنه حلقة معزولة عن غيرها من المشروعات الفكرية الأخرى، وتراكم النقد هذا عبر الزمن يوصلنا بالضرورة إلى الأفضل. وقد تعرّض مشروع محمد شحرور لنقد كثير، بعضه انفعالي ووزنه المعرفي ضئيل، وبعضه عميق ومفيد، وفائدتنا ستكون كبيرة فيما لو اعتبرنا أي مشروع والنقد الموجه إليه عملًا متكاملًا لكنه مفتوح وغير مكتمل، ويحتاج دائمًا إلى النقد وإعادة النظر. لذلك، من المهم ألا نقفل باب الحوار نهائيًا في أي مسألة من المسائل، خصوصًا عبر تخندقنا وراء دروع "التقييمات وأحكام القيمة"، تلك التي تسدّ أبواب النقاش وتخلق العداوات، على شاكلة "تجوز الرحمة على فلان أو لا تجوز"... فليبقَ شحرور، وغيره، محط حوار دائم، فمن الحكمة وضع احتمال الاستفادة من أي مشروع، ولو في أضيق نطاق ممكن. ألم تكن "الأخطاء" في العلم والمعرفة مفيدة للبشرية؟! فعبرها ومن خلالها جرى تحريض كثيرين على البحث والتفكير لاكتشاف ما هو أقرب إلى الحقيقة.
كذلك، لا يمكن التعامل، في ميدان الفكر، وفق مبدأ "الكل أو لا شيء"؛ أي من غير المنطقي رمي أو قبول كل ما قاله شحرور أو غيره، فالطريقتان لا تقدّمان ما ينفع ويبقى. قد لا يتفق، بعضنا أو معظمنا، مع الكاتب، وقد يتفق بعضنا معه في فكرة ويختلف معه في فكرة أخرى. كذلك، الإسلام ليس كتلة واحدة صماء، ولو كان كذلك لما وجدنا مئات التفاسير والفرق والمذاهب، فضلًا عن تباين فهمه بين الناس.
نشير أيضًا إلى أهمية توفر متطلبات الحوار في حدّها الأدنى، خصوصًا بالنسبة إلى المحاورين الذين يدخلون في حواراتٍ مفتوحةٍ ليس لديهم اطلاع على موضوعاتها أو معرفة فعلية بنتاجات الكاتب موضوع الحوار. هنا يصبح الاستماع، والتمهّل في إصدار الأحكام، والسؤال عما هو غير مفهوم أو معروف، واحترام الكاتب والمحاورين، فضائل وصفات مطلوبة إن كانت الحقيقة هي الغاية المنشودة.
عدم التجييش والتحشيد؛ من أصول العمل الفكري الابتعاد والحذر من اختزال وتشويه الأفكار مقدّمة لرميها، وهذه آلية تجييش وتحشيد لمقاصد لا تتعلق بالفكر والبحث عن الحقيقة، فالدخول في حوار فكري مع كاتبٍ ما يتطلب استكشاف منهجه ومرتكزات فكره، لا الاقتصار على النتائج الأخيرة مفصولة عن مقدّماتها وسياقاتها، واختزال جهده في بعض المقولات السريعة، واستخدامها في قتل الكاتب وتسفيه فكره ووضع حاجز نفسي ثقيل بين فكره والناس.
لا بدّ أيضًا من تجاوز لغة المديح والذم في ميدان الفكر، فهي لغة قاصرة ولا تضيف أو تعيِّن
شيئًا، ويبدو أن لها علاقة بتاريخنا. هذه اللغة تمنع القراءة والتفكير والتحليل، نمدح أو نذم من دون قراءة أو معرفة في الغالب الأعم، نتخندق خلف بعض المقولات أو الوجبات السريعة، ونعد ذلك موقفًا فكريًا وسياسيًا.
النقد مطلوب في كل لحظة، لكنه مسألة مغايرة تمامًا للذم والشتيمة المبنيين على مقولات مجتزأة أو منقولة من دون توثيق. النقد يبحث في الآخر ويجادله ويستكشف جوانبه كافة، إيجابًا أو سلبًا. أليس من الأجدى مواجهة الفكرة بالفكرة، والحجّة بالحجة، بدلًا من الشتائم؟ في الإسلام مثلًا نهى الله عن سبّ الأصنام وسدنتها، لكيلا يسبّ هؤلاء رب العالمين "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ". عندما نشتم كاتبًا ما، فإننا نشتم، في الوقت نفسه، المقتنعين بفكره، فهل يمكن أن تنتج الشتائم فكرًا أو علمًا؟!
وأحيانًا، قد يسهم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في قتل التفكير، خصوصًا عندما تُقدَّم الأفكار مختزلة أو مبتسرة أو مشوهة، أو عندما يصبح شخص الكاتب ومواقفه السياسية هي سبب التحشيد ضده، لا أفكاره ونهجه. في مثل الأحوال هذه، نحن نعيد إنتاج ممارسات السلطات الاستبدادية التي كانت تُحدِّد طريقة التعاطي مع النتاج الفكري لأي كاتب، تبجيلًا أو تحقيرًا أو منعًا أو إشهارًا، انطلاقًا من معرفتها بولاء الكاتب أو معارضته لها.
الاختصاص؛ التخصص في العلوم والمعرفة مسار طبيعي بحكم اتساع العلم والمعرفة، لكنه لم يكن في أي يوم شرطًا للإبداع؛ فمبدعون كثيرون، عبر التاريخ، في الميادين كافة، لم يكونوا من حملة الشهادات أو متخصصين في حقل معين، فضلًا عن أن لبعض الميادين خصوصية معينة، بحكم كونها في الحصيلة شأنًا عامًا، خصوصا العلوم النظرية التي تختلف في متطلباتها وحاجات تعلّمها عن العلوم التطبيقية، ومع ذلك هناك من أبدعوا في الأخيرة هذه. لذلك، لا يجوز رفع حجة عدم التخصص في وجه كل من يبدع أو يناقش أو يكتب، خصوصًا في مثل الحقول هذه: السياسة والفكر والعلوم الاجتماعية والفلسفية والأديان وغيرها؛ فمفكرون وكتاب كثيرون بذلوا جهدًا خاصًا في بعض الحقول هذه من دون أن يدرسوها في الجامعات دراسة تخصصية، وأبدعوا وتفوقوا.
لا ترتبط الثقافة والإبداع بالتعليم الدراسي والجامعي، وهناك نماذج واقعية عديدة أثبتت ضيق أفق الذين يضعون التخصّص شرطًا للإبداع؛ عباس محمود العقاد لم يتجاوز تعليمه الابتدائية، لكن تجاوزت مؤلفاته المئة كتاب، وجمال الغيطاني تحصّل على "دبلوم صنايع"، لكنه حصد جوائز أدبية مهمة، ونزار قباني تخرّج في كليّة الحقوق لكنه أصبح شاعرًا مرموقًا، وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين تخرّج في كلية العلوم، وغابرييل غارسيا ماركيز فشل في
الدراسة، لكنه أصبح من أهم روائيي العالم، وتولستوي ترك الجامعة وأصبح أبَ الأدب الروسي، وتوماس أديسون (مخترع المصباح الكهربائي) طُرد من المدرسة بحجة أنه "غير قابل للتعلم"، وأينشتاين (صاحب النظرية النسبية) كان فاشلًا في دراسته، وبيل غيتس لم يكمل دراسته بجامعة هارفارد، إلا أنه أبدع في ميدان التكنولوجيا. .. الحكم والفيصل في المآل هو النص المطروح للحوار أو إنتاج المرء في ميدان معيّن، نناقشه من دون وضع حواجز تتعلق بتخصص المرء أو عدم تخصّصه.
أخيراً
يضغط الواقع المعاصر بقوة على أهل المنطقة بتياراتهم ورؤاهم كافة، ويطرح علينا باستمرار تغيرات ومشكلات جديدة، وكثيرًا ما انقسمنا حول طبيعة مواجهة تحدّياته وشكلها وآلياتها. كنا في مرات كثيرة منفعلين بالحضارة الحديثة نركض خلفها، ونلهث وراء منتجاتها وثمارها لنستهلكها ونرميها من دون أن تطرأ تغييرات جوهرية في فكرنا وحياتنا على المستويات كلها. وفي مراتٍ، أو مواضع أخرى، رفضناها وبنينا سورًا حول ثقافتنا وموروثاتنا، لنبقى سعداء بجهلنا، نجتر ماضينا وتراثنا مرّات ومرات، معتقدين أننا بانغلاقنا ندفع عن أنفسنا آثار الحضارة الإنسانية ومشكلاتها وتحدياتها، لنكون في الحصيلة على هامش الفعل والتأثير في العالم.
نريد أن نستوعب العالم وثقافاته لنكون جزءًا فاعلًا فيه، وليصبح هو أيضًا جزءًا حقيقيًا منا، بدلًا من أن يطحننا ويرمينا إلى هوامشه. نحن لا نستطيع أن نقفز فوق تراثنا دفعة واحدة أو بجرّة قلم، فهو موجود ومؤثر، ولا نستطيع أن نعيش الواقع والعصر إن استمرينا في سجن أنفسنا داخله، ولا نستطيع أن نكون فاعلين ومؤثرين في العالم إن حافظنا على فهمنا التراثي، ولم نحل المشكلات المتعلقة به على مستوى أوطاننا، وفي العالم، ولا نستطيع أن نقدِّمه، ونقدِّم أنفسنا، إلى العالم لنكون شركاء ندّيين، إن قدّمناه بعقل الماضي ورجاله.
كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية.