في التدمير الذاتي.. عربياً

11 يوليو 2014
+ الخط -

 ليست المنظومة العربية وحدها المشرذمة اليوم، هذه كانت شكوانا، نحن الشعوب العربية، عقوداً، ولم تزل. أما اليوم فقد دخلنا مرحلة التشظِّي الداخلي في كثير من دولنا، سواء على أسس عرقية أم طائفية، أم حتى سياسية.

وبعيداً عن حديث المؤامرات الأجنبية علينا، والتي ليست كلها بالضرورة مبالغات، أو حتى أوهاماً، فإن ما نشهده، اليوم، من جنون يصل إلى حد التدمير، إنما هو في جلِّه من صنع أيدينا. إنه تدمير ذاتي للإنسان العربي، وتدمير ذاتي لكثير من دولنا العتيدة، إلى الحد الذي يحار فيه المرء إن كان المسؤولون عن هذا الجنون وهذه الفوضى يعون ما يفعلونه، وهل هو عن سبق إصرار وترصد، أم أنهم منساقون وراء حسابات ذاتية، وحماقات منفلتة من أي منطق؟

منطق التدمير الذاتي أصبح سمة عامة في الفضاء العربي، فهو يقوم على نسف كل مقومات الوحدة الوطنية الداخلية، دع عنك العربية القومية. إنه يمزق النسيج الاجتماعي في الدولة الواحدة، ويقسم الشعب الواحد إلى شعبين، أو حتى أكثر. وبذلك، تصبح تلك المجتمعات هشة، قابلة للاختراق، والتقسيم، وربما عاجزة عن النهوض مجدداً.


في مصر، التي كانت تفاخر دوماً بعصبية متماسكة، وهوية وطنية جامعة، أضحى الحديث فيها عن الشعبين ضمن الشعب الواحد واقعاً وأمراً بدهياً، لا يستدعي كثيرَ استنكارٍ أو تحسس. مصر اليوم، بعد الانقلاب، فقدت عمقها الوطني، وتضعضع نسيجها الاجتماعي، وضعفت هويتها الجامعة، وهي، لذلك، كله فقدت مقومات أساسية من مقومات أمنها القومي وعمقه.

فمجتمع هش منقسم على ذاته هو مجتمع قابل للاختراق، كما أنه قابل لمنطق التدمير الذاتي، بعيداً عن أية حسابات وطنية، أو حتى منطقية. فالانقلاب في مصر قدم هدفَ نجاحِه ومصالحَ رموزه على مصالح الدولة.. فمصر الدولة أعيد تغييبها من جديد لمصلحة نظامٍ، لا يهمه إلا استمراره حاكماً.

ولكن المعضلة ليست حبيسة مصر وحدها، ففي سورية، أيضاً، نجد منطق التدمير الذاتي نفسه. فالنظام الحاكم اختار تفجير حرب مدمرةٍ لم تبق ولم تذر، على أن يقبل بإصلاحات في بناه وقوالبه، التي لا تمتُّ إلى هذا العصر أبداً، فكانت النتيجة أن سقطت البلد تحت الوصاية الإيرانية المباشرة، والروسية غير المباشرة. ولكن الثورة الشعبية، أيضاً، انحرفت عن مسارها، فأصبحت عرضةً للتجاذبات والأجندات الإقليمية.

واليوم، وصلنا إلى مرحلةٍ لا يستطيع النظام، ولا الثورة، الرجوع فيها خطوة إلى الوراء، كما أنهما عاجزان، في الوقت نفسه، عن حسم هذه المعركة المدمرة لصالح أحدهما. وبهذا انقسمت سورية واقعاً، وأصبح شعبها شعوباً على أسس عرقية وطائفية، فضلا عن تقسيم آخر، حسب الجهة المسيطرة على كل منطقة.

وليبيا، التي ثارت على ديكتاتور أرعن، هشم بلده، عقوداً أربعة، تجد، اليوم، نفسها في قلب فوضى، تتم هندستها بعناية، وهي إن استمر بها الحال على ما هو عليه اليوم، فإنها سائرة في اتجاه عودة نظام على النمط القذافي من جديد، أو إلى انقسام مناطقي وجهوي.

أما في العراق، وهو مدخل التشظية والشرذمة في المنطقة، منذ غزوه أميركياً على فترتين،
(1992-2003)، فإن البلد يسير بثبات نحو التجزئة، على أساس خطوط عرقية وطائفية. صحيح أن أسَّ المشكلة أميركي، غير أن سياسات رئيس الوزراء، نوري المالكي، الطائفية المقيتة، وارتهانه المهين لإيران وتدخلاتها التخريبية، هي ما تدفع بالعراق، اليوم، نحو الانتحار كوطن واحد وكهوية جامعة لمكونات سكانية عرقية وطائفية مختلفة، لكنها كانت منصهرة عراقيا.

الأمر نفسه ينطبق، اليوم، على اليمن، المزروع، هو الآخر، بألغام طائفية ومناطقية، فضلاً عن انكشافه أمام تدخلات إقليمية، وخصوصا إيرانية، تخريبية. فعقود من الفساد السياسي، والحكم الديكتاتوري، قادت إلى شرخ مجتمعي، وتشوهات بنيوية، عبرت عن نفسها في حروب يمنية-يمنية، استنزفت الوطن وَشَظَّت الشعب.

الأمثلة في هذا السياق تطول، وجلُّ الدول العربية غير محصنة من التشظِّي الجغرافي والسكاني. فالكبت السياسي، وخنق الحريات، وإهدار كرامة الناس، واستنزاف ثروات البلاد، والإصرار على بنى حكم بالية ومتخلفة، ومحاولة دق أسافين بين مكونات الشعب الواحد المختلفة، ليسهل حكمها، كلها وصفات لانفجارات في المجتمع الواحد.. إنها مقدمات لتدمير ذاتي، أو، على الأقل، إضعاف للممانعة الذاتية ضد أي تدخل خارجي.

في كلمة، المجتمعات الهشة والمنقسمة على ذاتها والفاقدة لهوية ومشروع جامعين، قابلة للتطويع والاختراق والتجزئة. وفي حين أن أنظمة الحكم القمعية قد تظن أنها بإضعاف مجتمعاتها، وخلق استقطابات فيها، تكون في مأمن من مطالب التغيير والإصلاح، فإن التجارب الحية الشاخصة أمامنا تنبئنا بغير ذلك. حتى الأنظمة العربية، التي تلعب دوراً تخريبياً في دول عربية أخرى، في مسعى يائس إلى كسر رياح التغيير العربي، قبل أن تصل إلى شواطئها، فإنها تمارس التدمير الذاتي.

ولا أدل على ذلك مِن أنّ مَنْ يصوغ خريطة المنطقة، اليوم، هي قوى رئيسية ثلاث: الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، في حين لا تقوم تلك الأنظمة، التي تستنزف روح الثورة العربية إلا بتهيئة الأرضية (بما في ذلك أرضياتها هي نفسها الداخلية) لتلك القوى المركزية الثلاث، لفرض شروطها ومصالحها في المحصلة، في منطقة يتقن عربها فنّ التدمير الذاتي.