07 نوفمبر 2024
في الاحتفاء بالديمقراطية
تابعتُ الضجة الإعلامية، التي صاحبت تَرَشُّح مواطن بريطاني وفوزه بمنصب عمدة مدينة لندن، فوقفت على جملةٍ من المعطيات، التي يمكن أن تكون مفيدةً في معاركنا المتواصلة، من أجل ترسيخ قيم وآليات المشروع السياسي الديمقراطي في مجتمعاتنا.
يكشف ما حصل في بريطانيا في الموضوع المذكور أن قوة النظام السياسي الديمقراطي تتمثَّل في طابعه المفتوح، سواء في المجتمعات، التي تمرَّست بتقنيات الديمقراطية وإجراءاتها ومآثرها، أو في المجتمعات التي ما فتئت تبحث عن طريقٍ لولوج أبوابها وعتباتها. وتذكَّرتُ، في السياق نفسه، أن دفاع النُّخَب العربية، بالأمس واليوم، عن المشروع السياسي الديمقراطي، كان ولا يزال يندرج في إطار دفاعها المتواصل عن التحديث السياسي، باعتباره الحاضنة المُؤسِّسَة للمبادئ الكبرى للديمقراطية، في مختلف أوجُهها وحالاتها.
لا يمكن أن يُفهم فوز صادق خان بمنصب عمدة واحدةٍ من أكبر العواصم في العالم، إلا في إطار المبدأ الذي يُقِرُّ بأنه لا حدود مغلقة للديمقراطية، إنها تَعَدُّد واختلاف، والتَّعَدُّد يستدعي معطياتٍ كثيرة لا تكون دائماً محسومةً بصورة قطعيَّة، ولا بطريقة ميكانيكية. ومن هنا، فإن المعارك التي تنشأ أو تتجدَّد في مجتمعات مُتَعَوْلِمَة ومفتوحة مثل بريطانيا، تقتضي دائماً مواصلة التحديث، وذلك ببناء توافُقاتٍ جديدةٍ منسجمة مع مقدِّمات الحداثة ومآثرها.
يهتم الفاعل السياسي العربي الذي يُواجه، اليوم، جملةً من التداعيات التي فجَّرتها انفجارات 2011، بأشكال الاستماتة التي تمارسها أنظمة الاستبداد، كما يهتم بصور تحصُّن بعض النخب بالأعراق وأشجار النسب، وتوظيف بعضها آليات وقواعد أنظمة الطوائف ومجتمعات المِلَل والنِّحَل، فيتأكَّد من أنه لا خلاص لمجتمعاتنا من أعباء التاريخ، وثقل الموروث السياسي المحافظ، إلا بمواصلة مناهضة التقليد السياسي، وباستماتةٍ مماثلةٍ لاستماتة القوى المحافظة، للتمَكُّن من فتح المجال أمام مقدِّمات التعاقد الاجتماعي والتاريخي، ونسج خيوط الحاضر والمستقبل بواسطتها.
عندما نُعايِن أشكال الصراع التي تدور رَحَاهَا اليوم في المجتمعات العربية، يتعزَّز إيماننا بالمشروع السياسي الديمقراطي، ويتعزَّز معه مبدأ دفاعنا المتواصل عن وَاحِدَّية التاريخ البشري، على الرغم من ميل المحافظين القدامى والجُدُد إلى الرقص على حبال مبادئ الهوية والأصالة والخصوصية، على الرغم من معاينتهم أن المجتمعات التي سبقتنا في رَكْب التقدُّم، عَبَرَت المسالك الوعْرة نفسها التي نَعْبُر اليوم. ولهذا نقول إن الانتقال الديمقراطي، الذي انفتحت عليه بعض المجتمعات التي نجحت فيها الثورات العربية، يُمَهِّدُ الطريق إلى تملُّك مكاسب الخيار السياسي الديمقراطي، شريطة وَعْيِنَا أن الديمقراطية لم تكن يوماً في التاريخ وَصْفَةً جاهزة للقضاء التام على الاستبداد والفساد، إنها عملية إبداعٍ متواصل لخيارات ومواقف، وبناء حلول وإجراءاتٍ يمكن أن تساعد في مواجهة مختلف التَّحَدِّيات التي تتناسل، اليوم، في محيطنا الاجتماعي، ولعلها تسمح ببناء نقط ارتكازٍ، نظريةٍ وتاريخيةٍ، تُمَكِّنُنَا من تخطِّي العقبات الجديدة التي نواجه اليوم، ونحن نبني ما يُعَزِّز حداثتنا السياسية.
أعتقد أن ما منح موضوع العمدة الضجة الإعلامية التي واكبته هو الصراع المتواصل في
العالم، والمتعلق بمسألة الاندماج الاجتماعي في مجتمعاتٍ تتجدَّد هوياتها بِتَجَدُّد مُكَوِّنَاتها، وتَجَدُّد مصادر تكوينهم ووعيهم، وما يمنح اليوم راهنيةً فعلية في الواقع العربي لمزيد من الدفاع عن الخيار الديمقراطي، ومواصلة مقاومة مظاهر الاستبداد والتسلُّط.
يحصل التحوُّل في التاريخ، وفي أنظمته السياسية، بصيغ عديدة خلال مراحل التاريخ المختلفة، منها نمط التحوُّلات التي ما فتئت تُفَجِّرُها أزمنة الحروب والصراعات، من قَبِيل ما يجري اليوم في المشرق العربي.
يعود سؤال الديمقراطية لِيُشَكِّل في الحاضر العربي إطاراً كبيراً للتفكير مُجدَّداً في مآلنا السياسي الراهن، وهو سؤالٌ يُحيل، في العمق، إلى مطلب التحديث السياسي، ذلك أن الديمقراطية في صورها المتعددة، وأشكالها التاريخية المختلفة، تقوم على قاعدةٍ مركزية مشتركة، قاعدة تمييز السياسي عن العقائدي والطوباوي، وإبراز علاقات التداخل القوية القائمة بين السياسي والتاريخي، السياسي والمجتمعي، السياسي والعقلاني، السياسي والفعل الإرادي التاريخي والتدبير التاريخي، حيث نُعايِن في قلب أزواج المفاهيم التي رتَّبنا جملةً من المقدمات الحاملة مشروع التحديث السياسي في أبعاده، وصُوره التاريخية المتنوِّعة. وقد ساهمت، وتساهم، الصراعات المشتعلة في المشرق العربي في خلخلة كثير من ملامح المشهد السياسي السابق على حصولها، وهي، على الرغم من كل الويلات الناتجة عنها، تضعنا في طريقٍ يؤهلنا مُجَدَّداً لانخراطٍ أعْمَقَ وأشمل في عملية بناء أسُسٍ نظرية، مُنَاِسَبةٍ للطموحات والخيارات التحديثية التي نروم بلوغها.
نعتقد أن التحديث السياسي أفق في التجريب السياسي التاريخي والإنساني، التجريب الرامي إلى تقنين الفعل السياسي الإنساني وفق معايير تاريخية وضعية، معايير قابلة للتطوير في ضوء التجارب التي أًنْجَزَتها، وما زالت تُنْجِزُها، البشرية في التاريخ. أما الديمقراطية، فإنها، في تصوُّرنا، أفق لترتيب الحقوق وتدبيرها بالجدل والحوار، وأساليب الإقناع والتوافُق التي بنتها الإنسانية خلال تاريخ بنائها أنظمة الحكم ووسائله المعروفة في التاريخ.
يكشف ما حصل في بريطانيا في الموضوع المذكور أن قوة النظام السياسي الديمقراطي تتمثَّل في طابعه المفتوح، سواء في المجتمعات، التي تمرَّست بتقنيات الديمقراطية وإجراءاتها ومآثرها، أو في المجتمعات التي ما فتئت تبحث عن طريقٍ لولوج أبوابها وعتباتها. وتذكَّرتُ، في السياق نفسه، أن دفاع النُّخَب العربية، بالأمس واليوم، عن المشروع السياسي الديمقراطي، كان ولا يزال يندرج في إطار دفاعها المتواصل عن التحديث السياسي، باعتباره الحاضنة المُؤسِّسَة للمبادئ الكبرى للديمقراطية، في مختلف أوجُهها وحالاتها.
لا يمكن أن يُفهم فوز صادق خان بمنصب عمدة واحدةٍ من أكبر العواصم في العالم، إلا في إطار المبدأ الذي يُقِرُّ بأنه لا حدود مغلقة للديمقراطية، إنها تَعَدُّد واختلاف، والتَّعَدُّد يستدعي معطياتٍ كثيرة لا تكون دائماً محسومةً بصورة قطعيَّة، ولا بطريقة ميكانيكية. ومن هنا، فإن المعارك التي تنشأ أو تتجدَّد في مجتمعات مُتَعَوْلِمَة ومفتوحة مثل بريطانيا، تقتضي دائماً مواصلة التحديث، وذلك ببناء توافُقاتٍ جديدةٍ منسجمة مع مقدِّمات الحداثة ومآثرها.
يهتم الفاعل السياسي العربي الذي يُواجه، اليوم، جملةً من التداعيات التي فجَّرتها انفجارات 2011، بأشكال الاستماتة التي تمارسها أنظمة الاستبداد، كما يهتم بصور تحصُّن بعض النخب بالأعراق وأشجار النسب، وتوظيف بعضها آليات وقواعد أنظمة الطوائف ومجتمعات المِلَل والنِّحَل، فيتأكَّد من أنه لا خلاص لمجتمعاتنا من أعباء التاريخ، وثقل الموروث السياسي المحافظ، إلا بمواصلة مناهضة التقليد السياسي، وباستماتةٍ مماثلةٍ لاستماتة القوى المحافظة، للتمَكُّن من فتح المجال أمام مقدِّمات التعاقد الاجتماعي والتاريخي، ونسج خيوط الحاضر والمستقبل بواسطتها.
عندما نُعايِن أشكال الصراع التي تدور رَحَاهَا اليوم في المجتمعات العربية، يتعزَّز إيماننا بالمشروع السياسي الديمقراطي، ويتعزَّز معه مبدأ دفاعنا المتواصل عن وَاحِدَّية التاريخ البشري، على الرغم من ميل المحافظين القدامى والجُدُد إلى الرقص على حبال مبادئ الهوية والأصالة والخصوصية، على الرغم من معاينتهم أن المجتمعات التي سبقتنا في رَكْب التقدُّم، عَبَرَت المسالك الوعْرة نفسها التي نَعْبُر اليوم. ولهذا نقول إن الانتقال الديمقراطي، الذي انفتحت عليه بعض المجتمعات التي نجحت فيها الثورات العربية، يُمَهِّدُ الطريق إلى تملُّك مكاسب الخيار السياسي الديمقراطي، شريطة وَعْيِنَا أن الديمقراطية لم تكن يوماً في التاريخ وَصْفَةً جاهزة للقضاء التام على الاستبداد والفساد، إنها عملية إبداعٍ متواصل لخيارات ومواقف، وبناء حلول وإجراءاتٍ يمكن أن تساعد في مواجهة مختلف التَّحَدِّيات التي تتناسل، اليوم، في محيطنا الاجتماعي، ولعلها تسمح ببناء نقط ارتكازٍ، نظريةٍ وتاريخيةٍ، تُمَكِّنُنَا من تخطِّي العقبات الجديدة التي نواجه اليوم، ونحن نبني ما يُعَزِّز حداثتنا السياسية.
أعتقد أن ما منح موضوع العمدة الضجة الإعلامية التي واكبته هو الصراع المتواصل في
يحصل التحوُّل في التاريخ، وفي أنظمته السياسية، بصيغ عديدة خلال مراحل التاريخ المختلفة، منها نمط التحوُّلات التي ما فتئت تُفَجِّرُها أزمنة الحروب والصراعات، من قَبِيل ما يجري اليوم في المشرق العربي.
يعود سؤال الديمقراطية لِيُشَكِّل في الحاضر العربي إطاراً كبيراً للتفكير مُجدَّداً في مآلنا السياسي الراهن، وهو سؤالٌ يُحيل، في العمق، إلى مطلب التحديث السياسي، ذلك أن الديمقراطية في صورها المتعددة، وأشكالها التاريخية المختلفة، تقوم على قاعدةٍ مركزية مشتركة، قاعدة تمييز السياسي عن العقائدي والطوباوي، وإبراز علاقات التداخل القوية القائمة بين السياسي والتاريخي، السياسي والمجتمعي، السياسي والعقلاني، السياسي والفعل الإرادي التاريخي والتدبير التاريخي، حيث نُعايِن في قلب أزواج المفاهيم التي رتَّبنا جملةً من المقدمات الحاملة مشروع التحديث السياسي في أبعاده، وصُوره التاريخية المتنوِّعة. وقد ساهمت، وتساهم، الصراعات المشتعلة في المشرق العربي في خلخلة كثير من ملامح المشهد السياسي السابق على حصولها، وهي، على الرغم من كل الويلات الناتجة عنها، تضعنا في طريقٍ يؤهلنا مُجَدَّداً لانخراطٍ أعْمَقَ وأشمل في عملية بناء أسُسٍ نظرية، مُنَاِسَبةٍ للطموحات والخيارات التحديثية التي نروم بلوغها.
نعتقد أن التحديث السياسي أفق في التجريب السياسي التاريخي والإنساني، التجريب الرامي إلى تقنين الفعل السياسي الإنساني وفق معايير تاريخية وضعية، معايير قابلة للتطوير في ضوء التجارب التي أًنْجَزَتها، وما زالت تُنْجِزُها، البشرية في التاريخ. أما الديمقراطية، فإنها، في تصوُّرنا، أفق لترتيب الحقوق وتدبيرها بالجدل والحوار، وأساليب الإقناع والتوافُق التي بنتها الإنسانية خلال تاريخ بنائها أنظمة الحكم ووسائله المعروفة في التاريخ.