في ادعاء التمثيل وتأييد الجلاد
أصبح بشار الأسد القابع في قصر المهاجرين في دمشق ضجراً من قلة الزوار، الذين يأتون ليستمعوا لشروحه المملة، عن المؤامرة الكونية التي يتعرض لها نظامه، وعن كيف يتصدى لها نظامه الممانع. فبات مستعداً لاستقبال أي كان، طالما الزائر يؤيد نظامه، ويحتفل معه بانتصاراته على شعبه بالمجازر والبراميل المتفجرة وعشوائية الاعتقال. وفي المقابل، هناك من يتوق إلى مصافحة الأسد والتقاط الصور معه، وإعلان تأييده، لعل ذلك يعطي للمجهولين والهامشيين مكانة في التاريخ. وهذه الوفود القليلة التي تزور الأسد، غالباً ما تكون لبنانية وأردنية وفلسطينية، تدعي صفة تمثيليةً ما، حزبية، نقابية، شعبية، وطنية... معتبرة أن انتحال صفة تمثيلية، لا تعطي شرعية لتحركها فحسب، وتستطيع بهذا الادعاء أن تمنح النظام نفسه هذه الشرعية أيضاً. جديد هذه الوفود كان مؤتمراً عقده في دمشق فلسطينيون في بعض المهاجر، مدّعين أنهم يمثلون كل الفلسطينيين في المهاجر. وتبجّح النظام أن الوفود تمثل الشعوب العربية الملتفة حول "القيادة الحكيمة"، ومعركتها في مواجهة المؤامرة.
هناك ظاهرة عربية فريدة، تخصّ كل من يعمل في الشأن العام ممن يدعي الانتماء لتيار سياسي، قومي، يساري، وطني، طائفي... فهؤلاء، مهما كانت انتماءاتهم، لا يقبلون التحدث باسمهم الشخصي، أو باسم فئة قليلة، فهم لا يرضون التحدث بأقل من تمثيل الشعب، أو الأمة من المحيط إلى الخليج، وإذا كان يسارياً، من الممكن أن يتحدث باسم حركات التحرير والقوى التقدمية والأحزاب الشيوعية في العالم. هذا ليس سخرية، بل واقع جدي، نراه في كل مكان، فأي طالب يتعرف على السياسة اليوم، ويصعد أي منبر خطابي، لا يقبل بأن يتحدث بأقل من تمثيله شعبه، "باسم الشعب الفلسطيني"، "باسم الشعب السوري"، "باسم الشعب اللبناني" ... وليس من المستغرب أن يدبج حزب من أربعة أشخاص بياناً باسم الأمة العربية. إن مدعي التمثيل يعتقد أنه بادعائه فقط، يحوز الصفة التمثيلية، فقد قرر أن يمثل مصالح الشعب والأمة، وطالما هو قرر، تحول قراره إلى واقع تمثيلي قائم.
أعتقد أن ادعاءات التمثيل تكرست في العالم العربي، بفعل الاستبداد الذي جاءت به الانقلابات العسكرية منذ الخمسينيات، مصادرة للسياسة، ومدعية التمثيل السياسي للشعب بكل قطاعاته، ولمصالح الأمة، في حالة الادعاءات القومية. إن ادعاء التمثيل بالمعنى الاستبدادي، هو إلغاء العملية السياسية كلها، وقصرها على مؤيدي الاستبداد. وبذلك، تصبح العملية السياسية التي تحدث باسم السلطة المستبدة، هي كل العملية السياسية، وعلى المعارضين أن يذهبوا، إلى السجون أو إلى المنافي. بالصوت الواحد الذي يُلغي كل صوت آخر، بات ادعاء التمثيل بقوة السلاح هو الصيغة السائدة، تُستكمَل بصناديق استفتاء شكلية على الديكتاتور، دليلاً على التأييد الشعبي الجارف لشخصه الاستثنائي. لذلك، كان من الطبيعي أن تكون نتائج الاستفتاءات على الديكتاتور 99%، وعندما تنخفض تسجل 98%. هذا التأييد الذي لم يحظَ به حتى الأنبياء في زمانهم، كانت له وظيفة واحدة، القضاء على كل معارضة على المستوى الوطني العام، أو على كل مستوى جزئي، نقابي، أو جهوي... ذلك كله تحت شعارات وطنية وقومية، تتعلق بقضايا غير محلية بالضرورة، فالقضايا المحلية ممنوعة على النقاش، لأنها يجب ألا تؤثر على المعارك الكبيرة التي يخوضها الديكتاتور المعادل للوطن مع المؤامرة الخارجية. بذلك، تتم مصادرة كل القضايا المحلية واستباحتها، بحجة الخطر الخارجي الداهم. ذلك كله أسس لبنية استثنائية، تم تدعيمها بقوانين استثنائية، مثل فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية وقوانين الطوارئ... إلخ. وبحكم الزمن المديد للاستبداد، لم يعد المواطن (الرعية) في بلدان، مثل سورية أو العراق أو ليبيا، يعرف الوضع الطبيعي، بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد، وأحيانا لرجل واحد، مثل معمر القذافي في ليبيا.
طالما أن هذا ما يحصل على المستوى الوطني العام في الإطار التمثيلي، وحتى تكتمل قبضة الاستبداد، لا بد أن يعمّم على مستوى النقابات والاتحادات، ما يلغي المجتمع المدني، ويتحول كل شيء إلى امتداد لسلطة الديكتاتور، ليس بوصف رؤساء النقابات صورة عن الديكتاتور، أو ممثلين له، بل بوصفهم أدوات تعيّنهم أجهزة المخابرات المتحكمة بمفاصل البلد، بقوة الصلاحيات التي يمنحها لها الديكتاتور، لا التي يمنحها القانون لها. في الثمانينيات، عمّت دمشق لافتات لا تُعد ولا تُحصى، تعلن حافظ أسد بوصفه "الطبيب الأول"، "العامل الأول"، "المحامي الأول"، "المهندس الأول"، "الفلاح الأول"... إلخ.
لم تكتفِ الأنظمة التي تدعي القومية باختراع تمثيل محلي هزيل، بل ادعت امتدادات تمثيلية في كل العالم العربي، وبالنموذج الفلسطيني. كان هناك فصيل للعراق، اسمه جبهة التحرير العربية، وكان لسورية أكثر من فصيل، الصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة، وكان لليبيا فصيل اختفى اسمه اللجان الشعبية. عدا عن أنه كانت عند البعثيين قيادة قومية، تجد فيها، الموريتاني والسوداني واللبناني والخليجي، لا يمثلون سوى أنفسهم، لكن هذا لا يمنع الادعاء من وجود تمثيلي في كل مكان في العالم العربي.
اليوم، وفي أزمة السقوط الأخلاقي والسياسي والوطني للنظام السوري، يبحث عن أزلامه، مدعياً أنهم إطارات تمثيلية شعبية لها قوة تمثيلية. وإذا كان النظام يبحث عمن يغطي على المذبحة التي يديرها ضد شعبه منذ أربعة أعوام، فهو يستثمر أي مجموعة، مهما كان حجمها يضخمها ويعطيها صفة تمثيلية. وهذا ما يقع على هوى هامشيين يرون في أن تأييدهم النظام يضعهم في مركز الكون. وهؤلاء الذين يحاولون التغطية على الجريمة التي ترتكب بحق السوريين، اليوم، تجعل منهم شركاء للنظام في الدم السوري. فعندما يسيل الدم لا تبقى القضية وجهات نظر، فهنا الموقف: إما أن تكون مع الجلاد أو أن تقف مع الضحية. الوقوف مع الجلاد وإشاحة النظر عن الدم السوري المسفوك بحجج واهية، هو السقوط الأخلاقي والسياسي والقيمي، فليس هناك ما يبرر الوقوف مع الجلاد، ولا حتى ذريعة أن هذا الدم يسفك لغايات نبيلة. إن الادعاء التمثيلي جزء من الجريمة، حتى لو كان المدعون يمثلون فعلاً ما يدعون تمثيله، فإن وقوفهم مع الجلاد مُدان أخلاقياً وسياسياً وقيمياً. والذين يضعون يدهم بيد الجلاد الملطخة بالدماء مفتخرين، ويوزعون الابتسامات هنا وهناك، فهم النموذج الحي عن انحطاط القيم إلى أدنى درك ممكن.