30 مارس 2020
في أهمية حرية الصحافة
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
المجتمع هو من يقرّر الإجابة عن سؤال حرية الصحافة وأهميتها بالنسبة له. صحيح أن المجتمعات ليست بالضرورة كتلة واحدة، ولا تُجمع على كل شيء، لا بل وتنقسم على أشياء كثيرة، إلا أن لكل مجتمع وشعب قواسم مشتركة يجمع عليها، أو تؤيدها الغالبية الساحقة منه. تظهر تلك المبادئ المشتركة في الوثائق التأسيسية للدول، وأهمها الدستور. ولكن قضية الحرية تخضع طبعاً للتفسيرات، وبعضها تعسفي وانتهازي، حتى قيل كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحرية، وهي مقولة نقلت عن الثائرة الفرنسية مدام رولان، في وصف عهد الثورة الفرنسية التي كانت خطوة عملاقة في تاريخ البشرية، على الرغم مما صاحبها من عنف. لذلك، من المفيد أن نتحدث عن التجارب التاريخية الملموسة في مجال حرية الصحافة.
بالنسبة للمجتمعات الغربية، تشكل حرية التعبير، وحرية الصحافة بالتالي، واحداً من أهم الأسس التي قام عليها الفكر الليبرالي الذي تطور في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ولكن ليس كل الناس يعتنقون ذلك الفكر، فقد كان الفكر الشيوعي قوياً في القرن العشرين. ومع سيطرة البلاشفة على الحكم في روسيا، وتأسيس الاتحاد السوفييتي، رفع لينين شعار كل الحقيقة للجماهير، وأصبحت صحيفة برافدا (الحقيقة باللغة الروسية) الصحيفة الأولى في الاتحاد السوفييتي. يعلم الجميع نهاية الاتحاد السوفييتي، ونهاية قصة الحقيقة والحقائق التي أخفاها عن الشعوب التي عاشت في ظله عقوداً. لا يُغفل طبعاً أن هناك نقداً أساسياً يوجه أيضاً لوسائل الإعلام في المجتمعات الغربية في أنها تخضع للمصالح الاقتصادية الكبرى، وهي لا تخدم كل طبقات المجتمع، لكن التجارب التاريخية تثبت أن حرية الصحافة في الغرب كانت أكبر بكثير من دول العالم الثالث، ومن المجتمعات التي حكمتها الأحزاب الشيوعية.
نعيش اليوم عصراً جديداً، دخلت فيه متغيرات جديدة، أهمها الإنترنت، ومنه وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي أو الإعلام الجديد. وإذا كانت الكتلة الشيوعية الأوروبية قد انهارت، فإن الصين موجودة، وما زال الحزب الشيوعي يحكمها، على الرغم من تحولها اقتصادياً إلى دولة رأسمالية، وهي تفرض حظراً على وسائل التواصل الاجتماعي الغربي، وتسمح لبدائل صينية يمكن السيطرة عليها. أما الحظر والقيود على وسائل التواصل في دول، مثل إيران وكوريا الشمالية، فهو معلوم وواضح للجميع.
ترافق صعود الإنترنت مع المتغير الاقتصادي العالمي الأكبر في عصرنا، وهو العولمة التي
وحّدت اقتصاديات العالم بدرجة كبيرة، وأدت طبعاً إلى بروز النموذج الصيني، فها هي الصين تبني اقتصاداً هو الثاني في العالم، ولكن ليس فيه مساحة لحريتي الصحافة والتعبير. وإذا كان الاتحاد السوفييتي قد انهار بسبب فشله في أن يشكل نموذجاً برّاقاً، بسبب دخوله في دوامة الأزمات الاقتصادية، فإن الاقتصاد الصيني يتقدّم، ومن المتوقع أن يتخطى الاقتصاد الأميركي بعد عقدين، أو ربما قبل ذلك. وقد نمت طبقة وسطى كبيرة في الصين، ولكن ليس هناك من مؤشرات على أنها تطرح قضية حرية الصحافة أولوية.
في عصرنا هذا أيضاً، تحرّكت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، نحو إسقاط النظم بقوة الاحتلال العسكري، ثم تأسيس مشاريع لإعادة بناء تلك الدول. في العراق، كان الاشتباك منذ البداية بين القيم الغربية، ومنها الإيمان بحرية الصحافة، والفكر الديني، وهذا في العراق منقسم طائفياً بشدة وحدة، لكنه يتحد غالباً في مواجهة قضايا الحريات إذا هدّدت مصالحه. لم تمثل الإدارات الأميركية المتعاقبة بالضرورة سنداً مدافعاً عن حرية الصحافة في العراق، فقد افتضح مشروع إدارة بوش الأول في تأسيس إعلام دعائي، يخاطب العراقيين على أساس كونهم طوائف منفصلة في الأسابيع الأولى للغزو العسكري وما تلاه. أما مشروع بناء مؤسسة إعلامية تملكها الدولة، لا الحكومة، على غرار "بي بي سي"، فلم يتحقق. أسست أميركا أيضاً قناة الحرة، بعد أن راعها تأثير وسائل الإعلام العربية على الرأي العام العراقي والعربي، لكن القناة فشلت في إحداث التأثير المرتجى أميركياً.
مثل أن الديمقراطية لا تستورد، بل تبنيها الشعوب وقادتها خياراً مصيرياً، فإن حرية الصحافة لا بد أن تنبع من الشعب، وأن يتبنّاها خياراً حقيقياً. وعلى الرغم من الذباب الإلكتروني والجيوش الإلكترونية والتنمر، باتت الشعوب العربية تتمتع بحريات تعبيرٍ أكبر بكثير من الماضي، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة أساسية لممارسة تلك الحريات. ولكن الصحافة ما زالت تحتل أهمية كبيرة حتى على وسائل التواصل، إذ إنها تملك التاريخ والمعرفة المهنية والإمكانات، وتستطيع التأثير بصورة كبيرة. ستحظى الصحافة بدعم شعبي وحرية أكبر، كلما اقتربت من الناس، وقدمت خدمة مهنية لهم في كشف الحقائق، وسيلتف حولها المجتمع، كلما تقدمت على ذلك الطريق.
نعيش اليوم عصراً جديداً، دخلت فيه متغيرات جديدة، أهمها الإنترنت، ومنه وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي أو الإعلام الجديد. وإذا كانت الكتلة الشيوعية الأوروبية قد انهارت، فإن الصين موجودة، وما زال الحزب الشيوعي يحكمها، على الرغم من تحولها اقتصادياً إلى دولة رأسمالية، وهي تفرض حظراً على وسائل التواصل الاجتماعي الغربي، وتسمح لبدائل صينية يمكن السيطرة عليها. أما الحظر والقيود على وسائل التواصل في دول، مثل إيران وكوريا الشمالية، فهو معلوم وواضح للجميع.
ترافق صعود الإنترنت مع المتغير الاقتصادي العالمي الأكبر في عصرنا، وهو العولمة التي
في عصرنا هذا أيضاً، تحرّكت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، نحو إسقاط النظم بقوة الاحتلال العسكري، ثم تأسيس مشاريع لإعادة بناء تلك الدول. في العراق، كان الاشتباك منذ البداية بين القيم الغربية، ومنها الإيمان بحرية الصحافة، والفكر الديني، وهذا في العراق منقسم طائفياً بشدة وحدة، لكنه يتحد غالباً في مواجهة قضايا الحريات إذا هدّدت مصالحه. لم تمثل الإدارات الأميركية المتعاقبة بالضرورة سنداً مدافعاً عن حرية الصحافة في العراق، فقد افتضح مشروع إدارة بوش الأول في تأسيس إعلام دعائي، يخاطب العراقيين على أساس كونهم طوائف منفصلة في الأسابيع الأولى للغزو العسكري وما تلاه. أما مشروع بناء مؤسسة إعلامية تملكها الدولة، لا الحكومة، على غرار "بي بي سي"، فلم يتحقق. أسست أميركا أيضاً قناة الحرة، بعد أن راعها تأثير وسائل الإعلام العربية على الرأي العام العراقي والعربي، لكن القناة فشلت في إحداث التأثير المرتجى أميركياً.
مثل أن الديمقراطية لا تستورد، بل تبنيها الشعوب وقادتها خياراً مصيرياً، فإن حرية الصحافة لا بد أن تنبع من الشعب، وأن يتبنّاها خياراً حقيقياً. وعلى الرغم من الذباب الإلكتروني والجيوش الإلكترونية والتنمر، باتت الشعوب العربية تتمتع بحريات تعبيرٍ أكبر بكثير من الماضي، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة أساسية لممارسة تلك الحريات. ولكن الصحافة ما زالت تحتل أهمية كبيرة حتى على وسائل التواصل، إذ إنها تملك التاريخ والمعرفة المهنية والإمكانات، وتستطيع التأثير بصورة كبيرة. ستحظى الصحافة بدعم شعبي وحرية أكبر، كلما اقتربت من الناس، وقدمت خدمة مهنية لهم في كشف الحقائق، وسيلتف حولها المجتمع، كلما تقدمت على ذلك الطريق.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020