المناداة على البضائع والتدليل عليها في أسواق العراق الشعبية فن قائم بحد ذاته، بل مهنة يستعان بأصحابها، ولا غنى عنها بالنسبة للبائعين وزبائنهم
بلكنات عراقية محببة، تصدح أصوات الباعة وأصحاب المهن بالتعريف عن سلعهم وخدماتهم والترغيب للشراء منهم، في مشاهد عرفها العراقيون منذ عقود طويلة، لكنّها بالرغم مما طرأ من تطور في مجال الدعاية بقيت تحافظ على مكانتها.
علي صادق، الذي يشتهر في مدينة الأعظمية، وسط بغداد، ببيع "اللبلبي" (حمص مسلوق بالبهارات) يجهر بصوته وهو يجول بعربته التي يتصاعد منها بخار ماء "اللبلبي" ذي الرائحة الشهية، وسط أحياء المدينة، فيقبل عليه الناس للشراء منه لمجرد سماع عباراته المنغمة. "لبلوب" هي الكلمة التي تصدح حنجرة علي صادق بها، لكنّه يمدُّ كثيراً بحرف الواو، مع تنغيمه، ويكرر الكلمة ثلاث أو أربع مرات ثم يلحقها بكلمات أخرى مثل "طيب وحارّ اللبلوب"، وينادي مرة أخرى بكلمة "لبلوب" الممدودة الواو والمنغمة ويردفها بعبارة "تازة (طازج) ونظيف وحبّوب".
علي صادق، الذي أمضى في هذه المهنة نحو عشرين عاماً، ما زال في الثامنة والعشرين من العمر، إذ كان يعمل مع والده، الذي توفي قبل ستة أعوام، في المهنة نفسها منذ طفولته، وتعلّم منه سرّها، الذي يختصره بـ"الكلمة الطيبة وحبّ الناس والعمل الشريف". يؤكد، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أن سرّ المهنة هذا "سبب الربح الوفير الذي أجنيه يومياً من بيع اللبلبي (يسمى بليلة في مناطق أخرى)".
اقــرأ أيضاً
لا يكاد الداخل إلى الأسواق الشعبية يسمع حديث من معه إلاّ إن تكلم بصوت مرتفع، فهنا أصوات الباعة لا تهدأ وأصحابها لا يكلّون ولا يملّون عن إطلاقها لترغيب الناس في شراء بضائعهم. أحد الباعة في سوق شعبي وسط الكرخ من بغداد، يجذبهم لشراء "اللبن الرائب" بعبارات متناسقة، تثير فضول الناس وتطفّلهم لمعرفة ما الذي يميّز بضاعة هذا الرجل عن غيره؛ فهو يكرر إنشاد: "لبن رايب (رائب) يرجعك شاب يا شايب" و"هذا اللبن للنسوان يرجع (يُعيد) رجلج (زوجك) الزعلان"، وغيرها من العبارات التي يضحك المارة وهم يسمعونها، وبسببها يقبل كثيرون على شراء اللبن، بحسب ما يشير هذا البائع، الذي يكنّى بـ"الحاج قاسم"، في حديثه إلى "العربي الجديد". الحاج قاسم يقول إنّه دائماً ما يرتجل عبارات يوجهها للمارة في السوق: "أحياناً أوجه عباراتي إلى امرأة مسنة أو رجل عجوز، أو طفل صغير، أرتجل العبارات بحسب ما يخطر لي. الجميع يطربهم سماع تلك العبارات التي لا تخلّ بالآداب". يضيف: "أغلب الباعة في الأسواق ينادون من أجل بيع بضائعهم. ولا بدّ من ترغيب الناس وتعريفهم بما نبيعه، وأيضاً من خلال المناداة نعلن عن نوعية بضاعتنا وجودتها".
المناداة على البضاعة تعتبر أيضاً مهنة في حدّ ذاتها، لمن يتمتع بمواصفات معينة تجعل الباعة يتنافسون لنيل خدماته، ومن بين هذه المواصفات سرعة البديهة، والذكاء، وارتجال الشعر، والصوت الذي يثير الانتباه لقوته أو لحلاوته، وحس الفكاهة.
يعتبر حسن الجواري واحداً من هؤلاء الأشخاص، وهو دائماً ما يرتدي ملابس غريبة تجذب الانتباه، وأحياناً ينادي بعبارات لا دخل لها بالبضاعة التي يحاول جذب المشترين إليها، لكن لا أحد ممّن يوظفه لحسابه يعترض عليه، فكلّ ما يقوله يصبّ لصالح العمل. يقف أمام محل لبيع ملابس الأطفال وينادي لبضاعته، وسرعان ما ينتقل إلى محل آخر يبيع أحذية نسائية وهو يدعو النساء إلى الدخول لرؤية "أحذية مصنوعة من جلد الحوت اللي (التي) ما تلبسها رجلها (زوجها) يموت". وبالفعل، تدخل ثلاث نساء إلى محل الأحذية وهنَّ يضحكن بسبب عبارته، بالرغم من أنّهن يعلمن أنّ الأحذية ليست من جلد الحوت، وأنّ أزواجهنّ لن يموتوا إن لم يدخلن إلى المحل، لكنّها تلبية لدعوة المنادي المرحة.
يقول الجواري لـ"العربي الجديد" إنّه تخرج من الجامعة قبل سنتين، وكان يعمل منذ عشر سنوات عاملاً في محل لبيع الحقائب النسائية، ووجد نفسه موهوباً في جذب الزبائن من خلال المناداة، فاختارها مهنة له. يوضح: "أجري اليومي من المناداة ليس ثابتاً، بل يعتمد على حركة السوق، لكنّه يتراوح ما بين 50 و100 ألف دينار (40 إلى 80 دولاراً أميركياً). أصحاب المتاجر يدفعون لي بسخاء".
بدوره، يقول أحمد وليد، وهو مالك متجر لبيع الملابس، إنّ الجواري وعدداً من المنادين، سبب في ارتفاع مبيعات السلع: "بعض زبائني يأتون إلى السوق لأجل سماع العبارات التي يطلقها الجواري. منها ما يثير الضحك، فهو يرتجل باستمرار مع كلّ موقف، ومع أغلب الزبائن، وأحياناً يغني، وأخرى يطلق الأهازيج باختلاف أنواعها".
في العاصمة بغداد تنتشر الإعلانات الضوئية الحديثة التي تعلن عن بضائع كهربائية وملابس ومواد منزلية مختلفة، وتُستغل مواقع التواصل الاجتماعي لنشر إعلانات مختلفة، لا سيما للمحال التجارية، لكن بالرغم من ذلك، لم تستطع هذه التكنولوجيا إزاحة المنادين من الأسواق.
نسائم حاتم (31 عاماً) سجلت مقطع فيديو لأحد الباعة المتجولين الشباب، وهو يدلّل على بضاعته من ألعاب الأطفال الصغيرة التي كان يعرضها على عربته. كان يغني وهو يحمل عرائس ودببة بعبارات منغمة: "اشتري دبدوب للغالي المحبوب، اشتري دبدوبة للغالية الحبوبة، اللي (الذي) يشتري عروسة ربي تزيد فلوسه". تقول حاتم لـ "العربي الجديد" إنّها أعجبت بطريقة الترغيب للبضاعة، فقد كان يرتجل أغانيه ويتحرك بشكل كوميدي يثير الانتباه، وهو ما دعاها إلى شراء لعبة لطفلتها. تشير حاتم إلى أنّ "المناداة على البضاعة لها وقع خاص. هي إعلان لا يمكن أن نستغني عنه. التكنولوجيا لا يمكن أن تغني عن المنادين في الأسواق. أحياناً أدخل إلى الأسواق الشعبية لأستمتع بنداءات الباعة، أعتقد أنّ جمالية أسواقنا سوف تزول إن حلت في يوم ما التكنولوجيا مكانهم".
المناداة على البضائع تعيد ذاكرة العراقيين إلى زمن مضى، لا سيما كبار السن، فقد كانت المناداة الوسيلة الوحيدة للتعريف بوصول الباعة المتجولين الذين كانت تعتمد عليهم العديد من العائلات، كمصلّحي الأجهزة المنزلية، وآخرين يشترون الحاجات البالية والمعطوبة.
الثمانيني راضي الدفاعي يقول إنّ الناس في أواسط القرن الماضي، كانوا يعتزون كثيراً بالأواني الفخارية، ويطلقون عليها "فرفوري" مشيراً إلى أنّ الكثير من العائلات كانت تعدّ الشاي في هذه الآنية التي يطلق عليها العراقيون اسم "قوري".
يضيف الدفاعي لـ "العربي الجديد": "لأنّه من الفخار كان القوري يتعرض للكسر، ونظراً لثمنه المرتفع بالنسبة للعائلات الفقيرة، كان هناك من يصلح هذه الكسور، وغالباً يكون المصلح متجولاً وليس صاحب محل". يتابع: "أحد مصلحي الفرفوري كان اسمه عبد القادر، ويلقب قدّوري. كان قدوري ينادي: أخيط كسر القوري، وأصلح الفرفوري، دوري يا دنيا دوري، آني (أنا) البطل قدّوري". يضيف: "كان قدّوري رحمه الله رجلاً ظريفاً، وظرافته كانت سرّ كثرة زبائنه في عدة مناطق من الرصافة ببغداد".
اقــرأ أيضاً
بلكنات عراقية محببة، تصدح أصوات الباعة وأصحاب المهن بالتعريف عن سلعهم وخدماتهم والترغيب للشراء منهم، في مشاهد عرفها العراقيون منذ عقود طويلة، لكنّها بالرغم مما طرأ من تطور في مجال الدعاية بقيت تحافظ على مكانتها.
علي صادق، الذي يشتهر في مدينة الأعظمية، وسط بغداد، ببيع "اللبلبي" (حمص مسلوق بالبهارات) يجهر بصوته وهو يجول بعربته التي يتصاعد منها بخار ماء "اللبلبي" ذي الرائحة الشهية، وسط أحياء المدينة، فيقبل عليه الناس للشراء منه لمجرد سماع عباراته المنغمة. "لبلوب" هي الكلمة التي تصدح حنجرة علي صادق بها، لكنّه يمدُّ كثيراً بحرف الواو، مع تنغيمه، ويكرر الكلمة ثلاث أو أربع مرات ثم يلحقها بكلمات أخرى مثل "طيب وحارّ اللبلوب"، وينادي مرة أخرى بكلمة "لبلوب" الممدودة الواو والمنغمة ويردفها بعبارة "تازة (طازج) ونظيف وحبّوب".
علي صادق، الذي أمضى في هذه المهنة نحو عشرين عاماً، ما زال في الثامنة والعشرين من العمر، إذ كان يعمل مع والده، الذي توفي قبل ستة أعوام، في المهنة نفسها منذ طفولته، وتعلّم منه سرّها، الذي يختصره بـ"الكلمة الطيبة وحبّ الناس والعمل الشريف". يؤكد، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أن سرّ المهنة هذا "سبب الربح الوفير الذي أجنيه يومياً من بيع اللبلبي (يسمى بليلة في مناطق أخرى)".
المناداة على البضاعة تعتبر أيضاً مهنة في حدّ ذاتها، لمن يتمتع بمواصفات معينة تجعل الباعة يتنافسون لنيل خدماته، ومن بين هذه المواصفات سرعة البديهة، والذكاء، وارتجال الشعر، والصوت الذي يثير الانتباه لقوته أو لحلاوته، وحس الفكاهة.
يعتبر حسن الجواري واحداً من هؤلاء الأشخاص، وهو دائماً ما يرتدي ملابس غريبة تجذب الانتباه، وأحياناً ينادي بعبارات لا دخل لها بالبضاعة التي يحاول جذب المشترين إليها، لكن لا أحد ممّن يوظفه لحسابه يعترض عليه، فكلّ ما يقوله يصبّ لصالح العمل. يقف أمام محل لبيع ملابس الأطفال وينادي لبضاعته، وسرعان ما ينتقل إلى محل آخر يبيع أحذية نسائية وهو يدعو النساء إلى الدخول لرؤية "أحذية مصنوعة من جلد الحوت اللي (التي) ما تلبسها رجلها (زوجها) يموت". وبالفعل، تدخل ثلاث نساء إلى محل الأحذية وهنَّ يضحكن بسبب عبارته، بالرغم من أنّهن يعلمن أنّ الأحذية ليست من جلد الحوت، وأنّ أزواجهنّ لن يموتوا إن لم يدخلن إلى المحل، لكنّها تلبية لدعوة المنادي المرحة.
يقول الجواري لـ"العربي الجديد" إنّه تخرج من الجامعة قبل سنتين، وكان يعمل منذ عشر سنوات عاملاً في محل لبيع الحقائب النسائية، ووجد نفسه موهوباً في جذب الزبائن من خلال المناداة، فاختارها مهنة له. يوضح: "أجري اليومي من المناداة ليس ثابتاً، بل يعتمد على حركة السوق، لكنّه يتراوح ما بين 50 و100 ألف دينار (40 إلى 80 دولاراً أميركياً). أصحاب المتاجر يدفعون لي بسخاء".
بدوره، يقول أحمد وليد، وهو مالك متجر لبيع الملابس، إنّ الجواري وعدداً من المنادين، سبب في ارتفاع مبيعات السلع: "بعض زبائني يأتون إلى السوق لأجل سماع العبارات التي يطلقها الجواري. منها ما يثير الضحك، فهو يرتجل باستمرار مع كلّ موقف، ومع أغلب الزبائن، وأحياناً يغني، وأخرى يطلق الأهازيج باختلاف أنواعها".
في العاصمة بغداد تنتشر الإعلانات الضوئية الحديثة التي تعلن عن بضائع كهربائية وملابس ومواد منزلية مختلفة، وتُستغل مواقع التواصل الاجتماعي لنشر إعلانات مختلفة، لا سيما للمحال التجارية، لكن بالرغم من ذلك، لم تستطع هذه التكنولوجيا إزاحة المنادين من الأسواق.
نسائم حاتم (31 عاماً) سجلت مقطع فيديو لأحد الباعة المتجولين الشباب، وهو يدلّل على بضاعته من ألعاب الأطفال الصغيرة التي كان يعرضها على عربته. كان يغني وهو يحمل عرائس ودببة بعبارات منغمة: "اشتري دبدوب للغالي المحبوب، اشتري دبدوبة للغالية الحبوبة، اللي (الذي) يشتري عروسة ربي تزيد فلوسه". تقول حاتم لـ "العربي الجديد" إنّها أعجبت بطريقة الترغيب للبضاعة، فقد كان يرتجل أغانيه ويتحرك بشكل كوميدي يثير الانتباه، وهو ما دعاها إلى شراء لعبة لطفلتها. تشير حاتم إلى أنّ "المناداة على البضاعة لها وقع خاص. هي إعلان لا يمكن أن نستغني عنه. التكنولوجيا لا يمكن أن تغني عن المنادين في الأسواق. أحياناً أدخل إلى الأسواق الشعبية لأستمتع بنداءات الباعة، أعتقد أنّ جمالية أسواقنا سوف تزول إن حلت في يوم ما التكنولوجيا مكانهم".
المناداة على البضائع تعيد ذاكرة العراقيين إلى زمن مضى، لا سيما كبار السن، فقد كانت المناداة الوسيلة الوحيدة للتعريف بوصول الباعة المتجولين الذين كانت تعتمد عليهم العديد من العائلات، كمصلّحي الأجهزة المنزلية، وآخرين يشترون الحاجات البالية والمعطوبة.
الثمانيني راضي الدفاعي يقول إنّ الناس في أواسط القرن الماضي، كانوا يعتزون كثيراً بالأواني الفخارية، ويطلقون عليها "فرفوري" مشيراً إلى أنّ الكثير من العائلات كانت تعدّ الشاي في هذه الآنية التي يطلق عليها العراقيون اسم "قوري".
يضيف الدفاعي لـ "العربي الجديد": "لأنّه من الفخار كان القوري يتعرض للكسر، ونظراً لثمنه المرتفع بالنسبة للعائلات الفقيرة، كان هناك من يصلح هذه الكسور، وغالباً يكون المصلح متجولاً وليس صاحب محل". يتابع: "أحد مصلحي الفرفوري كان اسمه عبد القادر، ويلقب قدّوري. كان قدوري ينادي: أخيط كسر القوري، وأصلح الفرفوري، دوري يا دنيا دوري، آني (أنا) البطل قدّوري". يضيف: "كان قدّوري رحمه الله رجلاً ظريفاً، وظرافته كانت سرّ كثرة زبائنه في عدة مناطق من الرصافة ببغداد".