في أسباب تردد سياسة الولايات المتحدة

17 يونيو 2014

أوباما وبوتين في المكسيك (يناير/2012/ فرانس برس)

+ الخط -
استقبل الرئيس البولندي، برونيسلاف كوموروفسكي، أخيراً الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أمام ثلاث طائرات أميركية مقاتلة مصطفة من طراز F16، في مطار وارسو الدولي "فريدريك شوبن"، وتحمل هذه الصورة دلالات عديدة، أهمّها تلميح أوباما إلى عدم تخلّي الولايات المتحدة الأميركية عن حلفائها في أوروبا الوسطى والشرقية، لكنّ مواقف الرئيس الأميركي تدعو إلى الحيرة، فهو شديد التردّد والتأني، خلافًا لسلفه جورج بوش الابن، والذي لا يتوانى لحظة عن الصعود للمقاتلات وحاملاتها في عرض المحيط، مهدّدًا ومنفجرًا في وجه الكبير والصغير. وصرح الرئيس البولندي السابق، ليخ فالينسا، الحائز على جائزة نوبل للسلام إلى خسارة أميركا دورها القيادي العالمي، نتيجة سياسة أوباما المتردّدة، وكان فالينسا قد طالب بضرورة استخدام القوة ضدّ روسيا، بسبب ضمّها شبه جزيرة القرم، ولتدخلها المباشر في الأوضاع الداخلية في أوكرانيا.

وطالبت بولندا ودول البلطيق بضرورة رفع دور حلف الناتو في الإقليم، بسبب تخوفات من تجاوز الأطماع الروسية القرم وشرق أوكرانيا، أخذًا بالاعتبار تموضع هذه الدولة في الجناح الشرقي لـ "الناتو"، وطمعًا بحثّ أوباما غلى تشتيت الشكوك بشأن الدور المتوقع للإدارة الأميركية في مواجهة الأطماع الروسية المتصاعدة. وعلى الرغم من تأكيدات قدّمها الرئيس أوباما في كلمته في الأكاديمية العسكرية West Point البولندية، إلا أنّ الشكوك ما تزال قائمة بشأن الدور الحاسم الأميركي للدفاع عن المعسكر والجناح الشرقي الأوروبي لحلف الناتو، وفقًا لتصريحات ميخال بارانوفسكي، الخبير في مؤسسة German Marshall Fund -  مكتب وارسو لصحيفة كابيتال البلغارية الأسبوعية.

أذكّر بأنّ أولى البيانات التي نشرتها وكالة CNN عقب قذف وجبة الصواريخ الأميركية الأولى فوق أفغانستان كانت "بلغت الخسائر نهار اليوم خمسين صاروخًا"، أو شيء من هذا القبيل، لعدم وجود ما يمكن تدميره عمليًا في هذا البلد القابع في تقاويم الماضي. وتركت الحربان اللتان خاضتهما الولايات المتحدة، في العراق وأفغانستان، إحساسًا مرًا لدى الشعب الأميركي، والذي أكّد في استفتاءات عديدة، أخيراً، عدم رغبته في تورط البلاد في مستنقعات القارات الأخرى، والتوقف عن خوض مغامرات عسكرية دولية، لتغيير العالم وفرض ديمقراطيات عصيّة على التنفيذ. الرأي الشعبي الأميركي يعتبر أحد الأسباب الرئيسية الكامنة في السياسة المتردّدة لإدارة الرئيس باراك أوباما بشأن التدخل المباشر حول العالم ومواجهة روسيا إثر الأزمة الأوكرانية، ما أدّى إلى استفادة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من الوضعية الأميركية السلبية، وفرض ذاته رقماً صعباً في المعادلات والتوازنات الدولية الجديدة.

استخدام السلاح الكيميائي خطّ أحمر على الورق

يذكر جميعنا تصريحات باراك أوباما بشأن استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي واعتبار ذلك خطًا أحمر لا يمكن السكوت عليه في خريف العام 2013. لم تلجأ إدارة أوباما بعد الضربة إلى تحديد منطقة حظر جوي في سورية، أو القيام بعملية عسكرية ضدّ النظام السوري، ووافقت، في نهاية المطاف بعد تردد ومماطلة، على المشروع الروسي المتمثل بتسليم السلاح الكيميائي السوري، مقابل عدم التعرض لنظام الأسد، واستمراره بممارسة القتل بالأسلحة التقليدية الذي قد يعتبره المجتمع الدولي رحيمًا مقارنة بالقتل الكيميائي، على الرغم من عدم توقف هذا النظام عن استخدام الأسلحة المحظورة دوليًا! التراجع عن الخطوط الحمراء يعني عمليًا عدم وجودها في الواقع. نجا نظام الأسد من العقاب الدولي، وفاز أخيراً في الانتخابات الرئاسية، ويبدو نظامه مستقرًا في الآونة الأخيرة، يعود الفضل كذلك للدعم المتواصل، من روسيا والصين وإيران، وكلّ من سار في دربهم.

ويرى محللون عديدون أنّ أوكرانيا ورقة خاسرة وذات اقتصاد متدهور ضعيف، لا تستحق عناء الدفاع عنها أوروبيًا، والسعي إلى ضمّها لتصبح جزءًا من المنظومة الأوروبية، لكن، يجب أن لا ننسى الأوضاع المأسوية التي مرّت بها ألمانيا، إثر الحرب الكونية الثانية، وكان الدولار، آنذاك، يعادل حقيبة مليئة بالعملة الوطنية "المارك"، وها هي ألمانيا الآن تتمكن من تبوّء مرتبة القاطرة المحرّك لقطار المنظومة الأوروبية بجدارة، كما يجب التنويه كذلك بالدور الأوروبي الرائد، ودعمه غير المحدود لمنظومة الدول الاشتراكية التي عانت من إفلاس وفقر وعوز في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يتساءل أحد، آنذاك، ما إذا  كانت هذه الدول تستحقّ هذا العناء، وها هي الآن تنتقل إلى دور متقدّم على الصعيد الاقتصادي والسياسي والحضاري، لتأخذ دورها كجزء من أوروبا المعاصرة. لذا، لا يجب تناول الملف الأوكراني باعتباره مسألة منتهية، والقرم جزء تاريخي من روسيا، وإلا كيف يمكن تناول المعاهدة الدولية الموقعة عام 1994، باعتراف روسيا بوحدة الأراضي الأوكرانية، ومصادقة روسيا وبريطانيا وأميركا على المعاهدة، ليكتفي الاتحاد الأوروبي بعد ضمّ القرم بفرض عقوبات جوفاء ضدّ روسيا وفئة الأوليغارسيا المقربة من الرئيس فلاديمير بوتين، ما ساعد في تقريب المسافة ما بين موسكو وبكين.

خطابات ذكية رنانة
حضّر بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجية مطولاً لخطاب أوباما، والذي ألقاه في الأكاديمية العسكرية البولندية West Point، كلمة هدفت لتهدئة نفوس المعارضين في الولايات المتحدة، الذين يرون أنّ إدارة أوباما لا تقوم بما يلزم لحماية المصالح الأميركية في الخارج، وفي الوقت نفسه، تهدف إلى نفي الاعتقادات السائدة في الأوساط الأوروبية والدولية، القائلة إنّ أميركا في عهد الرئيس الرابع والأربعين، باراك أوباما، قررت التراجع والابتعاد عن الحلول العسكرية. فحوى الخطاب الأميركي يصبّ في هذا الاتجاه، ما يعني أنّ الولايات المتحدة اتخذت قرارًا بعدم اللجوء إلى الحلول العسكرية في الخارج، باستثناء الشؤون التي تهدد مباشرة الأمن القومي الأميركي، وعلى الشعوب المنكوبة والمعرضة للتقتيل والتنكيل إخماد نيرانها بمقومات ذاتية.

ويبدو هذا القرار استراتيجيًا ولا رجعة عنه، ونحن نرى بوضوح السياسة الأميركية المحايدة في الملفين، السوري والعراقي، المتفجّر. هذا بالطبع لا يعني عدم لجوء أميركا إلى الخيارات العفوية عند الضرورة، ولكن بحذر شديد. نذكر، هنا، مثالا، زيارة وفد أميركي يشمل السيناتور الجمهوري رون جونسون وجون ماكين والسيناتور الديمقراطي كريس مرفي إلى صوفيا، باعتبار بلغاريا الدولة الأوروبية الوحيدة، إضافة إلى هنغاريا واليونان، المشاركة في مشروع نقل الغاز الروسي عبر الخط الجديد "دفق الجنوب"، ما يضمن احتكارًا كاملا لشركة غازبروم الروسية العملاقة، وماذا ترتب على هذه الزيارة من الناحية العملية؟ تصريح رئيس الوزراء البلغاري، بلامن أوريشارسكي، بوقف العمل على تنفيذ هذا المشروع بسبب الضغوط الأميركية، وبعد ساعات معدودة، طالب الحزب الاشتراكي عرّاب هذه الحكومة باستقالتها على الفور، والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة. هذا هو الثمن الذي أسفر عن زيارة الوفد الأميركي للوقوف في وجه المصالح الروسية في القارة الأوروبية.

الالتزام الوحيد الذي قدمه أوباما في القارة القديمة يتمثل بتأسيس صندوقٍ، بقيمة خمسة مليارات دولار، لتدريب القوات العسكرية والأجهزة الخاصة لمكافحة الإرهاب لحلفاء أميركا في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، من دون التدخل عسكريًا بشكل مباشر. مثالاً، تدريب القوات الخاصة النيجيرية لمواجهة منظمة "بوكو حرام" التي اشتهرت أخيراً باختطاف الفتيات الطالبات، والتهديد ببيعهن في أسواق الرقيق الأبيض. أوباما في خطاباته القارية أكّد أنّ التدخل الأميركي ومكافحة الإرهاب وسبل التعامل مع الملفات الساخنة حول العالم، مرن وذو أوجه مختلفة ومتعددة يعتمد على طبيعة الخلاف والأزمة المندلعة في القارات والدول المختلفة وأهمها الشرق الأوسط وأفريقيا.

تحذير أوباما القارة الأوروبية من عمليات إرهابية جهادية غير مقنع، وهو يدرك جيدًا أنّ الخطر لا يأتي من هذا الجانب، لذا ركّز كثيرًا على رفع مستوى أداء حلف الناتو، وحثّ الدول المعنية، وفي مقدمتها بولندا، على رفع موازنات وزارة الدفاع، لشراء مزيد من الأسلحة المتطورة والمقاتلات الحديثة، علمًا أنّ دولاً عديدة في أوروبا الشرقية والوسطى تمتلك طائرات ميغ، غير قادرة حتى على التمييز ما بين الطائرات الصديقة من المعادية.

الخطوات العملية التي اتخذها أوباما لتشجيع وطمأنة حلفائه تمثلت بتأسيس صندوق مشترك، ساهمت الولايات المتحدة الأميركية بمليار دولار لدعمه، لتدريب قوات الحلفاء في هذا الإقليم، وإرسال طائرات أميركية مقاتلة من طراز F15, F16 لبولندا ودول البلطيق، وإرسال مدمرات أميركية في المياه الإقليمية للدول الحليفة في البحر الأسود، اعتمادًا على المادة الخامسة من معاهدة الناتو، والتي تنصّ على أنّ الاعتداء على أية دولة عضو بمثابة اعتداء على دول الحلف كافة، كما أنّ تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لا تترك مجالا للشك بأنّه لاعب شرس وخطر في هذه المنطقة من العالم.

بولندا لم تشعر بالطمأنينة الكاملة، حتى بعد إمهال أوباما من بروكسل مثيله الروسي فلاديمير بوتين مدة شهر بتغيير مساره السياسي، وإلا فإنّ الناتو والاتحاد الأوروبي سيلجآن لفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية، بولندا ترغب بأكثر من ذلك بكثير وهي التي ذاقت الأمرين في الحروب الكونية، وتطالب بوجود عسكري دائم لقوات الناتو في منطقة أوروبا الشرقية والوسطى، الأمر الذي تعارضه ألمانيا، الحليف الاقتصادي الكبير لروسيا، لأنّ ألمانيا لا ترغب باستثارة روسيا ورفع مستوى وحدّة المواجهة بين الناتو والقوات الروسية على الجبهة الشرقية.

ليس متوقعاَ أن يلجأ الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد سياسة دفاع استراتيجية، تضمن له مواجهة القوى الخارجية، روسيا مثلاً، إذا ما حاولت الاعتداء على دول أعضاء، أو ضمّ قطاعات حدودية، وتفضّل أوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية لتنفيذ المهام العسكرية القذرة. في المقابل وإذا ما كانت أميركا تعتبر أمن أوروبا، وخصوصاً بولندا، جزءًا من أمنها القومي، فلا بدّ على الأقل من السماح بضمّ دول المنظومة الأوروبية إلى اتفاقية التجارة والاستثمار عبر الأطلسي (TTIP) وتشجيع التواصل والتعاون المشترك بين النخب الأوروبية والأميركية، ويعود الفضل لبوتين، في نهاية المطاف، لإعادة الاهتمام الأميركي بالقارة الأوروبية وتعزيز وجودها هناك، دفاعًا عن مصالحها، ولطمأنة حلفائها تجاه المطامع الروسية.                   
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح