افتتح المسرح القومي في لندن، منذ أسبوع، عرضه الجديد لمسرحية برتولت بريخت، الغنائية الشهيرة "أوبرا البنسات الثلاثة" التي وضع موسيقاها كيرت فيل، وعرضت لأول مرة في برلين عام 1928، ثم ترجمت بعدها إلى عشرات اللغات. ولهذه المسرحية الغنائية، التي استقاها بريخت من المسرحية الغنائية "أوبرا الشحاذين" عام 1728 للمسرحي الإنجليزي، جون جاي (1685 -1732)، تاريخ طويل مع مدينة لندن التي ولدت فيها، وها هي تعود إليها من جديد بعد ما يقرب من ثلاثة قرون، جرت فيها مياه كثيرة تحت جسر التاريخ والتغيرات الاجتماعية والسياسية لهذه المدينة العريقة؛ ولكن ما زالت المنطقة التي انبثقت منها تعاني من الفقر ولا تزال القضايا والرؤى التي طرحتها المسرحية، وخاصة في صيغتها البريختية، قادرة على إضاءة الواقع فيها، وتعرية ما به من فساد، على الرغم من تغير السياقات التي انبثقت عنها، ولكنها تغيرات في الشكل وليس الجوهر، كما يكشف لنا هذا العرض الجديد للمسرحية.
أوبرا مضادة عن أفقر الأحياء
والواقع أن جون جاي، صاحب "أوبرا الشحاذين" هو أحد أهم أعلام عصره، فقد كان صديقًا لكل من جونثان سويفت، صاحب "رحلات جليفر"، وألكسندر بوب الشاعر والناقد الشهير، وصاحب الملحمة الساخرة "اغتصاب خصلة الشعر". وينتمي النص الأصلي "أوبرا الشحاذين" التي تعد أنجح المسرحيات الإنجليزية في القرن الثامن عشر، إلى جنس المسرحية الغنائية التهكمية التي شاعت في العصر الأوغسطي بتركيزه على العقلانية والحس النقدي في إنجلترا في بدايات القرن الثامن عشر. فقد نزلت بالأوبرا من سماوات الإلقاء الأوبرالي الفخمة، بقواعده التقليدية وموسيقاه الكلاسيكية إلى الشارع وحياة الإنسان العادي، وألحان الأغاني الشعبية أو التراتيل الكنسية الشائعة.
لكن سر نجاح مسرحية جاي بين كثير من مسرحيات هذا الجنس التي شاعت في زمنها، أنها ككثير من الأعمال التي عاشت عبر العصور تعمد إلى السخرية من الجنس الفني الذي تنتمي إليه وتفكيكه، وهو جنس الأوبرا الإيطالية، التي أولعت بها الشرائح العليا من المجتمع الإنجليزي وقتها، وتنطوي على تهكم واضح على تصنّع تلك الشرائح. تمامًا كما كانت رائعة سيرفانتس "دون كيخوته" نصًا يسخر من جنس روايات البطولات الرعوية، وكما كانت رائعة أمبيرتو إيكو "اسم الوردة" عملًا يفكك روايات شرلوك هولمز البوليسية. فهي ليست أوبرا بالمعنى الحقيقي، ولكنها أوبرا مضادة إن صح التعبير، تستبدل بأبطال الأوبرات الكبيرة من الملوك والأمراء والنبلاء شخصيات شعبية من الحضيض الاجتماعي في لندن، بل من أكثر مناطقها فقرًا. وتستبدل بموسيقى الأوبرات الكلاسيكية، ألحانًا شعبية لأغنيات شائعة من الفلكلور الاسكتلندي خاصة. وأهم من هذا كله تتجنب مواضيع الأوبرات المثالية الكبيرة، لتسخر من السياسة والفقر وفقدان العدالة وتغلغل الفساد في كل الطبقات الاجتماعية.
وربما يكون هذا الأمر هو ما جذب بريخت إليها، ودفعه إلى إعادة كتابتها في عمله "أوبرا البنسات الثلاث" بعد مرور قرنين على العمل الأصلي. وربما يكون ما جذبه إليها أيضًا أن إحياء هذه المسرحية الغنائية عام 1920 استمر لأكثر من 1600 عرض، واعتُبر وقتها أطول العروض استمرارية في تاريخ المسرح، لا في إنجلترا وحدها بل في العالم كله. لكن أهم ما جذب بريخت إليها، في اعتقادي، هو العالم الثري الذي تقدمه ببساطة ساحرة، وقدرته على تفكيك شرور الرأسمالية، وتعرية أسسها غير الأخلاقية. فقد انبثقت "أوبرا الشحاذين" من حضيض الواقع الاجتماعي الإنجليزي وقتها، ومن منطقة شرق لندن خاصة East End التي دعت كارل ماركس بعد قرن من ظهور أوبرا جاي، إلى الحديث عن مدينتين في مدينة واحدة. فقد كانت منطقة تعاني من الفقر المدقع، والذي لا نجد مثيلًا له، هذه الأيام، إلا في أفقر المدن الهندية. وكانت لذلك بؤرة لاستفحال الجريمة التي تدور في عالمها أحداث "أوبرا الشحاذين". ولا تزال هذه المنطقة تحتفظ بموقعها التاريخي كأفقر أحياء لندن حتى اليوم.
فهي المنطقة التي كتب عنها، وليام بليك، أشعاره، وصورها تشارلز ديكنز في كثير من رواياته وأبرزها "أوليفر تويست"، وصولًا إلى موضعة سلمان رشدي أحداث روايته الخلافية "آيات شيطانية" فيها، ثم كتابة "مونيكا علي" أنجح رواياتها التي اتخذت من شارعها الرئيسي (بريك لين Brick Lane) عنوانًا لها. وقد كانت هذه المنطقة طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عنوانًا على الازدحام والفقر والجهل وتفشي الأمراض المعدية وانتشار الجريمة. ولأنها كانت تقع شرق ميناء لندن الرئيسي على نهر التيمز ومخازن البضائع الشهيرة التي كانت تصل كلها بالسفن في هذا الوقت، فقد أصبحت أيضًا سكن العتالين والعمال غير المهرة، ومركزًا لاستقرار موجات المهاجرين المتعاقبة بها، من اليهود في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، حتى أبناء شبه القارة الهندية وجزر الهند الغربية، وصولًا إلى آخر الموجات من أفريقيا وبنغلاديش. وما أن يتحسن وضع أي موجة منهم حتى تهجرها وتفسح المجال للموجة التالية؛ كما حدث في القرن العشرين مع المهاجرين اليهود. وتعد قصة الشريكين "ماركس وسبنسر" فيها نموذجًا لذلك، فقد بدءا عملهما على عربة لبيع الملابس في سوقها الشهير، وانتهى بهما الأمر إلى تكوين إمبراطورية تجارية ضخمة تملأ محلاتها مولات العالم. كما انتهى بجاليتهم اليهودية نفسها إلى الانتقال إلى أحياء أرقى في غرب لندن من "سان جونز وودز" إلى "جولدرز جرين".
عالم شرق لندن استعارة لألمانيا
والواقع أن ما دفع بريخت إلى استلهام "أوبرا الشحاذين"، أو إعادة كتابتها وفق منهجه التغريبي الجديد في الكتابة المسرحية، وإن كان قد التزم إلى حد كبير بحبكة "أوبرا" جاي الأصلية وشخصياتها، أنه وجد في تصويرها لعالم شرق لندن استعارة موفقة لما كانت تعاني منه ألمانيا الطالعة من سنوات الحرب العالمية الأولى الخانقة، واتفاقية فرساي (1919) المجحفة، وتخبط حكومة فايمار الذي أدى لتضخم غير مسبوق، وضائقة ارتفاع الأسعار وتدهور قيمة المارك، وتفشي الفساد وانتشار الشحاذين في مدينة برلين، التي كانت وقتها من أكبر مدن العالم. كما أن واضع موسيقاها، كيرت فيل، وجد فيها وسيلة للرد على أوبرات فاغنر الصاخبة والسخرية من مبالغاتها الفخمة من ناحية؛ والعمل على تحويل تفكيك جنس الأوبرا نفسه وطرح أسئلة مهمة عن دوره في الواقع الاجتماعي، إلى موضوع لسهرة في المسرح من ناحية أخرى.
إننا إذن بإزاء عمل فني يلجأ على المستويين الدرامي والموسيقي معًا لاستخدام تقنيات التغريب البريختية المشهورة في مسرحه الملحمي لتفكيك جنس الأوبرا من ناحية، ونقد الرأسمالية التي لا تزال تناقضاتها تتفاقم من ناحية أخرى؛ في وقت كان فيه العالم على حافة أكبر أزماتها الاقتصادية الخانقة التي اندلعت في العام التالي لظهورها الاستشرافي، 1929/ 1930.
ولنأخذ القارئ أولًا في رحلة حول الحبكة الدرامية للمسرحية قبل الحديث عن نجاح العرض الإنجليزي الذي افتتح، أخيرًا، على خشبة المسرح القومي في تجسيد كثير من رؤى هذا العمل الغني حركيًا وبصريًا وموضوعيًا في الوقت نفسه.
المضامين البريختية، حث على التفكير
فـ "أوبرا البنسات الثلاث" تلتزم إلى حد كبير بالخطوط العريضة لـ "أوبرا الشحاذين" التي استلهمتها، وتعود في عرضها الإنجليزي الذي عصرن ترجمته الكاتب المسرحي، سايمون ستيفنز، إلى فضائها الأم، المنطقة الفقيرة في شرق لندن لتموضع شخصياتها الأساسية فيها: جونثان بيتشوم وزوجته سيليا وابنته بولي، والمجرم المحترف كابتن ماكهيث، الذي سبق له أن خدم في قندهار، مع مفتش الشرطة تايجر (النمر) براون، وابنته لوسي. تدور الأحداث حول غواية ماكهيث لابنة بيتشوم بولي والهروب معها والزواج منها، طمعًا في ثروتها ونفوذ أبيها في العوالم التحتية؛ ورفض بيتشوم وزوجته لهذا الزواج لمعرفتهما بحقيقة ماكهيث كمجرم نصّاب، والعمل على الإيقاع به في قبضة العدالة وإيداعه السجن بعد ارتكابه جريمة قتل تخليصًا لابنتهما منه.
لكن ماكهيث يعلم أن صداقته للنمر براون أثناء خدمتهما معًا في قندهار ستمكنه من الإفلات من السجن. ويتيح له النمر فعلًا فرصة الهرب. لكن الأم تدبر مع إحدى العاهرات التي يتردد عليها ماكهيث، حتى بعد زواجه، مهمة الإيقاع به كي تقبض عليه الشرطة. وما أن تفعل بسبب شهوانية ماكهيث التي دفعته لزيارة عاهرته قبل المغادرة، وعدم استفادته من فرصة الهرب التي أتاحها له النمر؛ حتى تحاول ابنته لوسي التي كانت هي الأخرى على علاقة غرامية به أدت لحملها منه مساعدته في الهرب من جديد، لأنه كان قد وعدها بالزواج، فيهرب بالفعل.
لكن ظهور زوجته بولي يعقّد الأحداث، كما يعقّدها تهديد بيتشوم لمفتش الشرطة بأطلاق كل شحاذيه لتعكير صفو الأمن في يوم تنصيب الملك الجديد، كي يفشل في أكبر مهمة أمنية له، إن لم يقبض على ماكهيث. فيقبض عليه من جديد، ويودع في السجن، ويحكم عليه بالإعدام. ويحتاج الأمر حينما حان موعد تنفيذ الحكم إلى اللجوء إلى الحيلة المسرحية المعروفة باسم وصول الإله في مركبته Deus ex machina لإنقاذ البطل، فيصل أمر ملكي بالعفو عنه، وتخصيص دخل ثابت له يضمن له البقاء ضمن الطبقة "المحترمة" بين قوسين.
وإذا كان بتشوم ملك الشحاذين ينتمي بحق إلى القاع الاجتماعي في منطقة شرق لندن، ويسيطر على شحاذي المدينة ويستغلهم، كما كان يفعل "زيطة" صانع العاهات في رواية نجيب محفوظ الشهيرة "زقاق المدق"؛ فإن نظيره ماكهيث يتصنع الظهور برداء الطبقة العليا، واستهتارها بمشاعر الآخرين واستغلالها لهم. فالمسرحية تسعى حسب منطق بريخت من خلال التوجه للوعي عن طريق الحبكة والمشاعر للكشف عن أن بنية الاستغلال الرأسمالي واحدة، سواء في الحضيض الاجتماعي وعالم الشحاذين أو في عالم الأثرياء والشرطة والسياسة. بل يوشك ظهور الإله على مركبته لإعلان إنقاذ ماكهيث من حبل المشنقة، أن يكون معادلًا لتدخل السلطات المتكرر في كل مرة تعاني فيها الرأسمالية، متمثلة في قمة تجسدها بالبنوك والبورصة والرأسمالية المالية، من أزمة خانقة لإنقاذها من الانهيار.
كأن بريخت يدعو المشاهد للتفكير في هذا المنطق المقلوب الذي لا يكتفي بإنقاذ المجرم من حبل المشنقة، ولكن يوفر له دخلًا دائمًا ومحترمًا، في عالم استطاعت فيه الرأسمالية المالية في زمننا الراهن خصخصة أرباحها في أزمنة ازدهارها، وتأميم خسائرها حينما تتعرض للأزمات كي يتحملها دافعو الضرائب.
وقد استطاع العرض الجديد الذي أخرجه روفوس نوريس، وهو مدير المسرح القومي الإنجليزي الحالي، أن يوظف لغة العرض في خدمة المضامين البريختية التي تهتم بتعرية البنية المسرحية والحيلولة دون تماهي الجمهور الانفعالي مع الأحداث، وحثّه على التفكير في ما يراه. وأن يستجيب العرض لأسس الجماليات المسرحية البريختية من حيث الاهتمام بالمتعة البصرية والحركية من دون التخلي عن أهمية الفكر والسياسة. فقدم لنا المشهد كله في شكل هيكل خشبي قماشي هش لكنه متشابك ومرتفع، يعادل هشاشة النظام الرأسمالي على الرغم من تماسكه. هيكل يتكون من إطارات متحركة باستمرار تؤكد سيولة هذا النظام وقدرته على التحول المستمر، والتشكل في صيغ استغلالية/ مرئية جديدة.
وهو الأمر الذي دعمته موسيقى كيرت فيل التي تعتمد على ما تسميه بالصور الصوتية Sonic images الإيقاعية التي تخلق صيغها المعادلة للصور البصرية التي تتشكل على خشبة المسرح في نوع من التناظر والقطيعة معًا. لأن وظيفة الأغنية في المسرح البريختي مركبة، من حيث أنها تقطع بظهورها المفاجئ أحيانًا، عوضًا عن الحوار الواقعي، أي تماهي أو توهيم تنويمي مع الموقف أو الشخصية. لأن بريخت يحثّ الممثل ألا يخفي عن الجمهور أنه يمثل، في نوع من التعارض الكامل مع منهج ستانسلافيسكي الشهير في تقمص الشخصية كلية، والاختفاء في إهابها. لكن الأغنية تؤكد في الوقت نفسه من خلال غنائها مفردات معينة وضع تلك المفردات في ذاكرة النص الداخلية، ليتأملها المشاهد ويفكر فيها.
وقد تعمد الإخراج أن يدخل المشاهد إلى ما يمكن تسميته بالكواليس الخلفية للمسرح ليدرك أن ما يشاهده مجرد عرض تمثيلي غنائي، من خلال تعريته تلك الكواليس من ناحية، واستخدام آليات خشبة المسرح القومي الجبارة، التي تتحرك دائريًا وأفقيًا ورأسيًا لتخليق المشاهد أمام الجمهور، أو الخروج بها من تحت الخشبة، أو الهبوط بها من أعلى المسرح، كما هبط الإله في مركبته لإيصال الأمر الملكي بكل سخرية للعفو عن المجرم. بصورة يدرك فيها المشاهد أن العالم الذي يشاهده، بل ويعيش فيه، ويتحكم في كل حياته، ليس إلا لعبة متقنة، عليه أن يفكر في أسس بنيتها العميقة ويطرح أسئلته عنها. وكيف أن الرأسمالية قد استطاعت التمويه على كل جرائمها بتلك النهايات السعيدة الزائفة، مهما كانت خسارة الأفراد كبيرة وفادحة. وإننا في عالم يفتقر إلى أبسط أسس العدل الاجتماعي والقانوني على السواء.