فينيسيا تروي سيرتها... مدينة الفنون والمهرجانات

04 سبتمبر 2018
قدّمت اللغة الإيطالية للعالم مفردة "بينالي" (سيمون بادوفاني/Getty)
+ الخط -
منذ قرون عديدة، تُعتبر فينيسيا (البندقية) مدينة الفنون والرقص والاحتفال، وكلّ جديد ومتميّز في هذه المجالات. بالنسبة إلى كثيرين، يقترن اسمها بمهرجانها السينمائي الأعرق والأقدم، مع أن احتفالاتٍ عديدة ومختلفة تُقام فيها سنويًا، علمًا أن شوارعها تشهد، كلّ عام منذ القرن الـ17، أحد أهمّ الكرنفالات العالمية. 
صحيحٌ أن تقاليده وعاداته وملابسه وأغراضه تبدّلت مع مرور الزمن واختلاف الأذواق والقوانين، لكن الكرنفال الأوروبي العريق، الذي استعاد حضوره السنوي منذ عام 1979، لم ينطفئ وهجه. في كلّ نسخة منه، يشارك فيه نحو 3 ملايين زائر. تُميّزه الأزياء "الفينيسية" التقليدية، وطبعًا الأقنعة "الفينيسية" الشهيرة، المرتبطة بتاريخ الكرنفال منذ تأسيسه.
يلاحظ زائر المدينة وجود أنواع كثيرة ومختلفة ومتباينة الأحجام ومتفاوتة الأسعار لتلك الأقنعة في معظم محلاّت البلدة القديمة تحديدًا، إذْ يوجد نحو 17 قناعًا، لكلّ واحد منها قصّة مختلفة ومعانٍ خاصّة به. أما عدد أيامه فيختلف من عام إلى آخر، وهو يمتدّ أحيانًا على 3 أسابيع، لكن الأغلب معقودٌ على أسبوعين اثنين، ويقام بين نهاية يناير/ كانون الثاني ونهاية فبراير/ شباط عادة.
قدّمت اللغة الإيطالية للعالم مفردة "بينالي" (أي مرة واحدة كلّ عامين)، وصنعت المدينة أعرق مفهوم لـ"بينالي" المهرجانات الفنية. مثلٌ على ذلك: "بينالي فينيسيا الدولي للفنون" (La Biennale di Venezia)، أو "فينيتزيا" كما يُنطق بالإيطالية، المؤسَّس عام 1895، والمُشرف على مهرجانات عديدة، أوّلها "بينالي الفنون التشكيلية والعمارة". ثم تأسّس "بينالي الموسيقى" عام 1930 و"بينالي المسرح والسينما" عام 1934. لكن، منذ عام 2000، انفصلت العمارة عن الفن، وصار لكل منهما "بينالي" خاص به. عام 1999، تأسّس "المهرجان الدولي للموسيقى المُعاصرة"، وبعد 10 أعوام، أُطلق "كرنفال الأطفال" و"مهرجان الرقص المعاصر". منذ ذلك العام، تغيّر اسم الـ"بينالي"، فأصبح "مؤسّسة البينالي"، وإن كان اسم "بينالي فينيسيا" لا يزال يُستخدم لوصف المعارض والمهرجانات كلّها التي تُنظّمها المؤسّسة.
تعبير "بينالي" متلائم والعمارة والفنون مثلاً، إذْ لا خطأ في استخدامه (لكل فنّ منهما مهرجان يُقام مرة واحدة كلّ عامين). لكن الخطأ كامنٌ في استخدامه لوصف المهرجان السينمائي، الذي يُقام سنويًا. صحيح أنه بدأ كـ"بينالي"، إذْ أقيمت دورتاه الأولى عام 1932 والثانية عام 1934، لكن هذا لا ينفي خطأ وصفه بتلك المفردة. فالأدقّ اعتماد التسمية الصحيحة، الإيطالية والإنكليزية والفرنسية: "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والابتعاد حتى عن تعبير "معرض فنون السينماتوغرافيا الدولي لبينالي فينيسيا" (Mostra Internazionale d'Arte Cinematografica della Biennale di Venezia).

هذا العام، الازدحام الفني على أشدّه في المدينة، إذْ افتتح "بينالي فينيسيا للعمارة الـ16" في 26 مايو/ أيار الفائت، وهو يستمرّ لغاية 25 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بعنوان "مساحات من دون حدود"، تشارك فيه دول عربية عديدة. وفي الفترة الممتدة بين 22 يونيو/ حزيران والأول من يوليو/ تموز 2018، أقيمت الدورة الـ12 لـ"مهرجان الرقص المعاصر"، وبين 20 يوليو و5 أغسطس/ آب، الدورة الـ46 لـ"بينالي المسرح الدولي". حاليًا، تقام الدورة الـ75 (29 أغسطس ـ 8 سبتمبر/ أيلول) للمهرجان السينمائي. أخيرًا، يقام "بينالي الموسيقى الـ62" بين 28 سبتمبر و7 أكتوبر/ تشرين الأول المقبلين.
منذ بداية الـ"بينالي"، تقام مهرجاناته واحتفالاته كلّها في أروقة "أرسنالة"، الواقعة في الطرف الأقصى للبلدة القديمة، باستثناء المهرجان السينمائي، الذي اختار ـ منذ تأسيسه ـ جزيرة "الليدو"، البعيدة عن ساحة سان ماركو نحو 40 دقيقة، وعن محطة القطار نحو 60 دقيقة.
لـ"أرسنالة دي فينيسيا" قصّة تمتدّ على التاريخ البحري العريق للمدينة، فهي الترسانة البحرية التي تتمّ فيها صناعة الأساطيل والمراكب والسفن، وصيانتها وإصلاحها. تاريخ عريق يصعب اختصاره بكلمات. فمنذ نهاية القرن الـ19 وتأسيس الـ"بينالي"، خُصِّصت نحو نصف مساحة الترسانة للفعاليات الفنية، وهي شاسعة وهائلة من حيث الارتفاع والفراغات والمساحات المفتوحة داخليًا وخارجيًا. وهذا جعلها نموذجًا مثاليًا لعرض كافة أنواع الفنون المعاصرة، خاصة الأعمال المُركّبة والفراغية. في "أرسنالة"، تمتلك دول كثيرة أجنحة خاصة بها، أقدمها مصر، قبل أن تلتحق بها دول عربية أخرى. وفي جزئيها القديم والحديث، مسارح وصالات سينمائية وقاعات عرض ومكتبات، مصنوعة كلّها بأحدث التكنولوجيا العصرية.
النصف الآخر من "أرسنالة" منطقة عسكرية شديدة الحراسة، مُغلقة حتّى على الإيطاليين من أبناء فينيسيا. لكن، ولأنها الصحيفة العربية الوحيدة التي أبدت رغبة في زيارة المنطقة هذه، فقد تسنّى لـ"العربي الجديد" التجوّل فيها برفقة مندوبٍ من البحرية الإيطالية، شرح ما كانت عليه الترسانة، ودورها المهمّ في صناعة الأسطول الـ"فينيسي" الذي "أحكم قبضته على البحر الأدرياتيكي وبحر إيجيه وجزره، وأخضع بلدانًا عديدة لسلطته، وساهم في الحملات الصليبية"، إلخ. في الزيارة نفسها، تمّ الاطّلاع على صناعة المراكب الحربية والتجارية، وعلى بناء وسائل الانتقال، كالصندل والجندول وغيرهما. بالإضافة إلى ذلك، قدّم مندوب البحرية الإيطالية لمحة عن تدمير نابليون للمكان ومراكبه وسرقتها. كما أن هناك غواصة إيطالية قديمة شاركت في الحرب العالمية الثانية "لا تزال موجودة هنا"، وأكبر جندول كان ينقل الركاب. كذلك الخنادق المقامة في أرجاء "أرسنالة"، التي كان يلجأ إليها سكان فينيسيا للاحتماء من الغارات. الآن، باتت "أرسنالة" عنابر مائية بالغة الضخامة وفارغة كلّيًا. لكن، عند الاستفسار عن سبب جعل المكان "منطقة عسكرية" مع أن لا أهمية لشيء فيه، قيل إن تلك هي التعليمات، وهذا كلّه ملكُ البحرية الإيطالية.
في "الليدو"، حيث يحتفل "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" بيوبيله الماسي هذه الدورة، يختلف الأمر كلّيًا. فالمهرجان لم يتّخذ من أية أبنية سابقة مقرات له أو لعروضه، على عكس مهرجانات الـ"بينالي" الأخرى، إذْ إن أبنيته كلّها واكبته منذ تأسيسه. في المقابل، يلمس زائر المهرجان كل عام تجديدًا وتطويرًا في محيطه المعروف باسم "ميدان ماركوني"، بعد الانتهاء من ترتيب الصالات قبل أعوام قليلة.


عام 2016، أُقيمت صالة خشبية حمراء فوق عشب الحديقة، وسُمِّيت صالة "غارديني" (446 مقعدًا)، وهي أحدث قاعات المهرجان. خيمة "بالا بينالي" أوسع (1700 مقعد). صالة "دارسينا"، التي افتُتحت في خمسينيات القرن الماضي وتمّ تطويرها قبل 4 أعوام، تضمّ 1409 مقاعد. أما صالة "غراندي"، أقدم صالات المهرجان، فافتُتحت في الدورة الـ5 عام 1937، لكنها خضعت لأعمال ترميم على مرّ السنوات، آخرها عام 2011، حيث أعيدت إلى ما كانت عليه تمامًا عند افتتاحها، بالبنية والخامات والتصاميم نفسها، مع إضافة واحدة: ارتفع عدد مقاعدها من 1019 إلى 1032.
فلسفة الملصق الرسمي للمهرجان مختلفة ومميّزة في فينيسيا، أقلّه في الأعوام القليلة الفائتة. فهو لا يفعل كمهرجان برلين، الذي يتّخذ الدب، رمز المدينة، شعارًا له، بل يتعامل مع الصورة السينمائية. مهرجان "كانّ" يكتفي بلقطة من فيلم مشهور يتلاعب بها فنيًا، بينما يُفضِّل مهرجان فينيسيا جعلها تشكيلية، أو ذات طابع كرتوني. لاحقًا، بات الملصق لقطات من أفلام تحريك أو رسوم متحركة، وهذه موجودة أيضًا في الشريط الدعائي للمهرجان الذي يُعرض، مصحوبًا بأنغام موسيقية، قبل عرض الأفلام. هذه ميزة تُبرز كيفية استغلال المهرجان للملصق، بعيدًا عن الصورة الصامتة الساكنة المطبوعة على أغلفة ومطبوعات، والموزّعة في الشوارع. ملصق هذا العام من تصميم فنان الرسوم الكاريكاتورية الإيطالي المعروف لورينزو ماتوتي: فتاة تمسك بيدها اليُمنى الكرةَ الأرضية الموجودة بدلاً من عينها اليمنى، وبيدها اليسرى تمسك مربعًا أبيض هو رمز شاشة السينما. ملصق يقول شيئًا عن العلاقة بين رؤيتنا للعالم من خلال الشاشة.

جائزتا "الأسد الذهبي" و"الأسد الفضي" ليستا من ابتكار المهرجان، كما يُخيَّل للبعض. ببساطة، يتّخذ المهرجان من شعار مدينة فينيسيا على مرّ تاريخها رمزًا له. الشعار جاء أساسًا مع تأسيس كاتدرائية "سان ماركو" في قلب البلدة القديمة، ويمثّل وجه القديس ماركوس وجسد أسد مُجنَّح. القديس ماركوس هو، في الحقيقة، القديس مُرقُص المصري. لا يعرف كثيرون أن هناك مُتعلّقات كثيرة له مُوجودة في الكاتدرائية. أما الجثمان، المسروق من مصر قديمًا ليُوضع في الكاتدرائية، فاستعادته الحكومة المصرية بعد المطالبة به. في ساحة "الليدو"، وفوق أحد العمودين المصريين، هناك أسد فينيسيا الذي سرقه نابليون قبل أن يتحطم ثم يُرمَّمَ، والذي اتخذ أشكالاً وهيئات عديدة على مر الزمن: وجه القديس، وغالبًا من دونه؛ الذيل مُختلف؛ أو الأسد ممسكًا بسيف. هو موجود في واجهات مبانٍ وقصور كثيرة في المدينة. وهو لغاية الآن مرسوم على علم البحرية الإيطالية.
دلالات
المساهمون