فيلم "روما": النساء وحيدات مهما قيل لهن غير ذلك

17 يناير 2019
ينفرد الفيلم بتصويره لتعاطي الشخوص مع الألم (Imdb)
+ الخط -
من النادر أن يحظى فيلمٌ، أو أي منتج ثقافي آخر، اليوم، بموافقة لا يعكّر صفوها اعتراضٌ، كتلك التي يحظى بها "روما" لمخرجه ألفونسو كوارون، والذي يبدو أن موجته لن تنكسر قريباً. فبعد أن توج الفيلم المكسيكي بالأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، أثبت عرضه على نتفليكس، منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي نجاحاً نقدياً وجماهيرياً؛ إذ تصدّر "روما" قائمة الغارديان لأفضل أفلام عام 2018، وتوج بفوزه بجائزة أفضل فيلم أجنبي، وفوز كوارون عنه بجائزة أفضل مخرج في الغولدن غلوبز بداية الشهر الحالي. ما الذي جعل من هذا العمل القطعة التي كان الجميع ينتظرها؟
يكمن هذا النجاح في قدرة كوارون على جمع الأضداد في كلٍ واحد، بكل انسجام وتناغم. وإذا ما أردنا أن نكون دقيقين أكثر، يمكننا القول إن "روما" استطاع أن يكون فيلماً بسيطاً مصورّاً بالأبيض والأسود من دون موسيقى تصويرية، وأن يكون عملاً غنياً مليئاً بالتفاصيل في نفس الوقت. كما أنه فيلم يعمل وفق "واقعيته" الخاصة، التي لا حدود ضيقة تفصلها عما هو "فني"، علاوةً على كونه فيلماً يروي قصةً شخصية ويستطيع، في الآن ذاته، أن يقدم صورة واسعة عن مكانٍ ما في زمنٍ معين.
يرصد الفيلم قرابة العام من حياة كليو، التي تعمل خادمةً في أحد منازل الطبقة المتوسطة، في حي كولونيا روما في مدينة مكسيكو، مارّاً على كل التغييرات التي تصيبها هي ومن حولها في المنزل. يبدأ الرصد من الأفعال اليومية، كمسح الأرضية وانعكاس السماء على المياه قبل أن تخترق سكونها طائرةٌ عابرة. يبدأ مزج اليومي بالفني منذ هذه اللحظة، ويأخذ مساره المتعرج، الذي سيجعل من الأرضية نفسها مساحة لمرور السيارات وتراكم فضلات الكلاب، مؤكداً تلاشي الحدود والقدسية لهذه المساحة "الجميلة".
وبينما يحدد كل من المنزل المحمي ببوابة والعائلة النموذجية التي تسكنه رتماً هادئاً بداية الفيلم، إلا أن هذا سرعان ما يتغير مع عودة أنطونيو، الزوج، إلى المنزل، وظهور علامات نفوره من زوجته، التي تحاول استيعاب الموقف والاقتراب منه. يعطينا الاختبار الأول هذا فكرة عن الحقيقة المختبئة خلف هذا السكون، إذ يبدأ عجز الزوجة عن السيطرة على علاقتها بزوجها وبأسرتها بالظهور، ومعه يتضح دور كليو كأكثر من مجرد خادمةٍ في هذا المنزل الذي يتهاوى بشكله الحالي على مهلٍ، وأقرب إلى العنصر الذي يمنع توقف الحياة في هذا المنزل.

لا يمنع هذا دخول كليو دوامة الاضطراب أيضاً؛ إذ تجد نفسها في علاقة مع لاعب فنون قتالية وتنتهي برفضه الاعتراف بطفلهما تاركاً كل العبء عليها، لتبدو "النساء وحيدات مهما قيل لهن غير ذلك" كما تشير صوفيا. لكن، إذا كان الفيلم "تحية لكل النساء اللاتي عرفهنّ كوارون" فإنه لا يغفل عوامل تقاطعية أخرى، كالعرق والطبقة، التي تجعل كليو "وحيدةً" بشكلٍ مختلف عن صوفيا التي تتحمل رفاهية تحطيم سيارةٍ تعجز عن توجيهها، كما حياتها، مقابل كليو التي تواجه عالماً قاسياً بحوارات مقتضبة دائماً وسلوك هادئ متسق.
في هذا العالم المضطرب، يمكن لصبي صغير أن يثرثر عن حياته السابقة حين كان طياراً ويمكن أن تكمل صوفيا المضي في مسارها المهتز، وتذرف الدموع مخترقةً فرقة نحاسية تعبر الشارع، وأن تلجأ الأسرة إلى مزرعة للاحتفال بعيد الميلاد لتستيقظ على حريقٍ يصيب غابة مجاورة. أكثر من ذلك، يمكن أن تتزامن ولادة كليو بفتاة ميتة مع تصدي الشرطة العنيف لاحتجاجات طلابية، في ما بات يعرف بـ "مجزرة جسد المسيح" Corpus Christi Massacre وأن يرمى أحدهم بالرصاص، في متجر يبيع مهود الأطفال الرضع.

تتحد كل هذه المشاهد، التي تختلف بمكانها وطابعها العام، بكثافتها التي تجمع المادة أو الموضوع الرئيس أمام الكاميرا في الخلفية، ويعطي تتاليها عبر مونتاجٍ بسيط وسلس الانطباع بتسلسلها المحكم زمنياً، معززاً الطابع الواقعي الذي يتسم به الفيلم.
ينفرد عمل كوارون، أيضاً، بتصويره لتعاطي الشخوص مع الألم في حيواتهم. ففي عالم "روما"، تجري الحياة بسرعة ولا مكان أو وقت للـ "دراما"؛ إذ يكفي مرور أنطونيو وعشيقته أمام ابنه لنفهم الخيبة والإحباط، من دون الحاجة لمواجهةٍ بين أب وابن، أو مقاطع حوارية مكتوبة بإتقان. يتكرر ذات الأمر عند تفاعل كليو مع ابنتها الميتة التي تبكيها بسرعة وتُؤخذ منها. في عالم "روما"، كل شيء، باختصار، يجري بسرعة.
تنطلق الأسرة قرابة النهاية إلى الشاطئ. هناك تنكشف الحقيقة للأطفال حول ترك الأب للأسرة، بينما تعيش كليو أزمتها الخاصة بعد موت الرضيعة. وتتشكل الذروة التي تصيب الخطين في آن واحد حين يغرق الطفلان، باكو وصوفي، وتهب كليو التي لا تجيد السباحة لإنقاذهما والعودة بهما إلى الشاطئ.
تأخذ العائلة، عند هذه النقطة (والعناق الذي بات صورة للفيلم) شكلها العضوي الجديد بلا الأب، وتتصالح كليو مع حقيقة أنها لم ترد ابنتها أساساً، ويندمج الخطان لتتشكل أسرة واحدة تعود إلى الحي والمنزل الذي بات يخلو من أي شيء يشير إلى أنطونيو. ويبدو هذا الوضع الجديد نقطة نهايةٍ، وبداية، ملائمة ينتهي عندها الفيلم من دون أن يوحي بنهاية مطلقة للقصة. لم يصبح العالم مكاناً أقل قسوة، خصوصاً حين يكون المكسيك واضطراباته السياسية في سبعينيات القرن الماضي، ولم تصل أي من الشخصيات إلى نهاية رحلةٍ سعيدة بالمعنى الكلاسيكي، لكنها باتت على وفاق مع هذا العالم ومع ضجيجه المستمر من دون انقطاع.
المساهمون