01 أكتوبر 2022
فيلم "العساكر".. الطبخة الوحيدة المتاحة
فلنتحدّث عن المهنة أولاً. إذا شبهنا الفيلم الوثائقي بطبخةٍ لها مكونات، فبرأيي جاءت مكونات فيلم "العساكر" الذي بثته قناة الجزيرة أخيراً مرتبكة، لتنتج طبخةً غاية في الضعف بالمعايير المهنية.
أول المشكلات الفكرة نفسها. هل هو عن التجنيد الإجباري في مصر؟ أم عن معاملة الجنود؟ أم عن اقتصاد الجيش؟ أم عن كفاءته القتالية؟ أم عن يومٍ في حياة مجند؟ تشوّش كبير أسفر عن تناول سطحي لكل هذه الأفكار المتناثرة.
ثاني المشكلات الفادحة كانت عدم التحديد الزمني على الإطلاق، هل حدثت هذه القصص قبل ثورة يناير أصلاً أم بعدها؟ في عهد المجلس العسكري أم محمد مرسي أم عبد الفتاح السيسي؟ الضيف الوحيد ذو الاسم المعلوم كان خبيراً أميركياً أنهى خدمته في مصر عام 1983، أي مرت على خبرته أكثر من ثلاثين عاماً.
الفترة الزمنية مهمة جداً، ليس فقط لأن هذه أبسط أصول "التوثيق"، ولكن أيضاً لأن الفيلم في سقطةٍ قاسيةٍ أخرى انتهى بالإشارة للهجمات الإرهابية في سيناء، وربط ذلك مع قصص سوء تدريب الجنود. كان الحد الأدنى (للتوثيق) يتطلب أن نسمع شهادة مُجنّدين خدموا في سيناء خلال العامين الأخيرين، وإلا فإن الربط مستحيلٌ مهنياً.
القصص عن سوء تدريب الجنود متواترة جداً، كما أعرف قصصاً أخرى مختلفة عن مُجندين خدموا أخيراً في سيناء، وتلقوا تدريباتٍ على أسلحة آلية وقنابل ومدافع "آر بي جي"، وهذا يأخذنا إلى مشكلة التعميم عن جيش ضخم من مئات آلاف الأفراد. ولنتذكّر هنا أن آخر هجوم إرهابي كبير بالاشتباك المباشر المتزامن في يوليو/ تموز 2015 انتهى بالفشل، بعد قتال استمر ساعات صمد فيها هؤلاء "العساكر"، ومن وقتها لم يتكرّر، وانتقل التركيز إلى أساليب المُفخخات والقنص والألغام.
مشكلة أخرى هي الضعف العام للمصداقية، بحكم مجهوليّة كل المتحدثين، وفقر المادة البصرية للفيلم، وأغلبها مشاهد تمثيلية أو من أرشيف الجيش.
أزمة هائلة أخرى هي الغياب التام لسياق علم العسكرية العالمي، فالفيلم الذي تعرّض بخفة شديدة لملفات التسليح والكفاءة القتالية، تجاهل تماماً ذكر المصادر العالمية التي تجمع على الترتيب المتقدّم للجيش المصري، كتصنيف "جلوبال فاير باور" الذي يمنح الجيش المصري المرتبة 12 عالمياً.
ويشتمل السياق العلمي أيضاً على أساليب تحويل المدنيين إلى حياة العسكرية الخشنة، مثلاً تم إبراز شكوى من القيام بأعمال نظافة الحمامات، من دون توضيح هل هذا حصري في مصر، أم يحدث في جيوش أخرى؟
يظهر الفارق المهني الشاسع إذا قارنا الفيلم بفيلم "موت في الخدمة" للزميل مصطفى المرصفاوي على شاشة "بي بي سي"، على الرغم من أن موضوعه أكثر خطورة عن مُجندين قُتلوا ثم صُنفوا حالات انتحار.
حسناً، إذا كان الفيلم بهذا الضعف، فلماذا هزّ مصر كلها؟ ببساطةٍ، لأنه الوحيد. يمكن أن نسأل "الجزيرة" كثيراً عن سبب تجاوز كل هذه المشكلات المهنية وعرض الفيلم. لكن، علينا أن نسأل الإعلام المصري أيضاً عن سبب الغياب التام لموضوعه من الأساس.
لم يجد فيلم "موت في الخدمة" أية فرصةٍ داخل مصر، وبعد اضطرار مصطفى لعرضه على "بي بي سي"، تلقى أيضاً شلالاً من الهجوم والشتائم ولوم المؤامرة البريطانية!
ليست مشكلتهم الأساسية محتوى الفيلم، فقد بدأ الهجوم قبل عرضه، ولا حتى القناة التي عُرض عليها، والتي ظلمت الفيلم بجعل تقييمه سياسياً لا مهنياً، سواء هجوماً أو مدحاً، بل مشكلتهم أنه موجود أصلاً.
في كل أسرةٍ مصريةٍ، هناك من ذهب إلى التجنيد، وعاد يحكي أمثال تلك القصص، فلماذا لم تظهر أبداً على أي شاشة مصرية قبل "الجزيرة"؟
فلنُسهل المهمة: لا داعي لأن تفتحوا ملف اقتصاد الجيش، ولا تعيينات العسكريين في مناصب مدنية، ولا الأوضاع في سيناء، ولا حتى معاملة الجنود، ما رأيكم بقضية سهلة جداً يمكن طرحها من زاوية الدفاع عن هيبة الجيش: ماذا تم بشأن محاسبة المتسببين بفضيحة "جهاز الكفتة"؟ أين اللواءان عبدالعاطي طاهر عبدالله؟
إذا كنت لا تقدّم هذه الطبخة إطلاقاً، فلا تتعجب من نجاح من يقدّمها، مهما بلغت مساوئها بالنسبة لك.
أول المشكلات الفكرة نفسها. هل هو عن التجنيد الإجباري في مصر؟ أم عن معاملة الجنود؟ أم عن اقتصاد الجيش؟ أم عن كفاءته القتالية؟ أم عن يومٍ في حياة مجند؟ تشوّش كبير أسفر عن تناول سطحي لكل هذه الأفكار المتناثرة.
ثاني المشكلات الفادحة كانت عدم التحديد الزمني على الإطلاق، هل حدثت هذه القصص قبل ثورة يناير أصلاً أم بعدها؟ في عهد المجلس العسكري أم محمد مرسي أم عبد الفتاح السيسي؟ الضيف الوحيد ذو الاسم المعلوم كان خبيراً أميركياً أنهى خدمته في مصر عام 1983، أي مرت على خبرته أكثر من ثلاثين عاماً.
الفترة الزمنية مهمة جداً، ليس فقط لأن هذه أبسط أصول "التوثيق"، ولكن أيضاً لأن الفيلم في سقطةٍ قاسيةٍ أخرى انتهى بالإشارة للهجمات الإرهابية في سيناء، وربط ذلك مع قصص سوء تدريب الجنود. كان الحد الأدنى (للتوثيق) يتطلب أن نسمع شهادة مُجنّدين خدموا في سيناء خلال العامين الأخيرين، وإلا فإن الربط مستحيلٌ مهنياً.
القصص عن سوء تدريب الجنود متواترة جداً، كما أعرف قصصاً أخرى مختلفة عن مُجندين خدموا أخيراً في سيناء، وتلقوا تدريباتٍ على أسلحة آلية وقنابل ومدافع "آر بي جي"، وهذا يأخذنا إلى مشكلة التعميم عن جيش ضخم من مئات آلاف الأفراد. ولنتذكّر هنا أن آخر هجوم إرهابي كبير بالاشتباك المباشر المتزامن في يوليو/ تموز 2015 انتهى بالفشل، بعد قتال استمر ساعات صمد فيها هؤلاء "العساكر"، ومن وقتها لم يتكرّر، وانتقل التركيز إلى أساليب المُفخخات والقنص والألغام.
مشكلة أخرى هي الضعف العام للمصداقية، بحكم مجهوليّة كل المتحدثين، وفقر المادة البصرية للفيلم، وأغلبها مشاهد تمثيلية أو من أرشيف الجيش.
أزمة هائلة أخرى هي الغياب التام لسياق علم العسكرية العالمي، فالفيلم الذي تعرّض بخفة شديدة لملفات التسليح والكفاءة القتالية، تجاهل تماماً ذكر المصادر العالمية التي تجمع على الترتيب المتقدّم للجيش المصري، كتصنيف "جلوبال فاير باور" الذي يمنح الجيش المصري المرتبة 12 عالمياً.
ويشتمل السياق العلمي أيضاً على أساليب تحويل المدنيين إلى حياة العسكرية الخشنة، مثلاً تم إبراز شكوى من القيام بأعمال نظافة الحمامات، من دون توضيح هل هذا حصري في مصر، أم يحدث في جيوش أخرى؟
يظهر الفارق المهني الشاسع إذا قارنا الفيلم بفيلم "موت في الخدمة" للزميل مصطفى المرصفاوي على شاشة "بي بي سي"، على الرغم من أن موضوعه أكثر خطورة عن مُجندين قُتلوا ثم صُنفوا حالات انتحار.
حسناً، إذا كان الفيلم بهذا الضعف، فلماذا هزّ مصر كلها؟ ببساطةٍ، لأنه الوحيد. يمكن أن نسأل "الجزيرة" كثيراً عن سبب تجاوز كل هذه المشكلات المهنية وعرض الفيلم. لكن، علينا أن نسأل الإعلام المصري أيضاً عن سبب الغياب التام لموضوعه من الأساس.
لم يجد فيلم "موت في الخدمة" أية فرصةٍ داخل مصر، وبعد اضطرار مصطفى لعرضه على "بي بي سي"، تلقى أيضاً شلالاً من الهجوم والشتائم ولوم المؤامرة البريطانية!
ليست مشكلتهم الأساسية محتوى الفيلم، فقد بدأ الهجوم قبل عرضه، ولا حتى القناة التي عُرض عليها، والتي ظلمت الفيلم بجعل تقييمه سياسياً لا مهنياً، سواء هجوماً أو مدحاً، بل مشكلتهم أنه موجود أصلاً.
في كل أسرةٍ مصريةٍ، هناك من ذهب إلى التجنيد، وعاد يحكي أمثال تلك القصص، فلماذا لم تظهر أبداً على أي شاشة مصرية قبل "الجزيرة"؟
فلنُسهل المهمة: لا داعي لأن تفتحوا ملف اقتصاد الجيش، ولا تعيينات العسكريين في مناصب مدنية، ولا الأوضاع في سيناء، ولا حتى معاملة الجنود، ما رأيكم بقضية سهلة جداً يمكن طرحها من زاوية الدفاع عن هيبة الجيش: ماذا تم بشأن محاسبة المتسببين بفضيحة "جهاز الكفتة"؟ أين اللواءان عبدالعاطي طاهر عبدالله؟
إذا كنت لا تقدّم هذه الطبخة إطلاقاً، فلا تتعجب من نجاح من يقدّمها، مهما بلغت مساوئها بالنسبة لك.