فيلبي: احتراف الجاسوسية وخيانة الأصدقاء

16 يونيو 2015
(نيويورك: برودوي، 2015)
+ الخط -
في مقدمة هذا الكتاب الذي يسرد مرارة خيانة الوطن وأقرب الأصدقاء معا ثمة اقتباس للروائي الإنجليزي إدوارد مورغان فوستر (1879- 1970) يرسم فيه حيرة قاتلة بين مرارة خيانة الوطن ومرارة خيانة الأصدقاء ويقول: "لو اضطررت للاختيار بين خيانة وطني وخيانة أصدقائي، فإنني آمل أن أمتلك الشجاعة لأخون وطني. أعرف أن هذا الاختيار سوف يُشعر القارئ الحديث بالعار، وربما سيدفعه للوصول إلى الهاتف وطلب الشرطة. لكنه اختيار ما كان ليصيب دانتي (مؤلف الكوميديا الإلهية) بالصدمة. فدانتي وضع بروتوس وكاسيوس في الدرك الأسفل من الجحيم، لأنهم اضطروا لاختيار خيانة صديقهم يوليوس القيصر على خيانة وطنهم روما".

في هذا الكتاب يعيد بن ماكنتير سرد قصة كيم فيلبي الشاب الإنجليزي النابه وخريج جامعة كامبردج في ثلاثينيات القرن الماضي، وخداعه أقرب أصدقائه وحاميه في العمل الاستخباراتي، نيكولاس إليوت، خلال السنوات الطويلة لتجسسه وخدمته لجهاز الكي جي بي السوفييتي. كيم فيلبي هو الابن لجاسوس آخر هو جون فيلبي الأب الذي عرفته المنطقة العربية متنقلا بين الجزيرة العربية والعراق وسورية في الربع الأول من القرن العشرين، ثم قريبا من الملك ابن سعود ومستشارا له. تحدث فيلبي الأب العربية بطلاقة، ولبس الزي البدوي، وأعلن إسلامه وأصبح عبدالله فيلبي، وكان حليفا قويا لآل سعود ضد الهاشميين. كيم الابن هو واحد من "حلقة الخمسة" أو "حلقة كامبردج" وهم بضعة شبان بريطانيين تخرجوا من الجامعة العريقة وانبهروا بالشيوعية وأرادوا خدمتها عن طريق التجسس لصالح الاتحاد السوفييتي. ومعظم الخمسة تم تجنيدهم خلال فترة دراستهم الجامعية في حقبة الثلاثينيات.

خيانة فيلبي المزدوجة، لوطنه وأصدقاء عمره، وقصته المدهشة تكمن في كونه قد انخرط في سلك الجاسوسية أولا مع المخابرات البريطانية الخارجية (MI6)، ثم ترقى فيه ووصل إلى مراتب عليا، وأشرف على عمليات سرية ومعقدة، وضمن دائرة ضيقة من الأصدقاء المخلصين الذين رافقوه طيلة شبابه ثم في مسيرته المهنية. وقبل ذلك كله كان قد انتظم جاسوسا مع ال كي جي بي. اسم وسيرة والده جون سهلت دخوله الدائرة الاستخباراتية الضيقة، وكذا انتماء عائلته للطبقة العليا في المجتمع البريطاني والتي كانت "المؤسسة الحاكمة" تثق بما تنتجه من أفراد مخلصين وقادرين على خدمة العرش. خلال تلك السنوات الطويلة ترأس فيلبي قسم "مكافحة التجسس السوفييتي" في الاستخبارات البريطانية وفي الوقت نفسه كان يقدم التقارير تباعاً لموسكو، ويحلم بتدمير الرأسمالية الغربية.

غيرت التقارير التي كان يرسلها فيلبي إلى موسكو كثيرا من الأحداث على الأرض بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت تفاجئ أطرافا عدة بسبب المنحى غير المتوقع الذي كانت تأخذه. مثلاً، اشتغلت المخابرات البريطانية على تدريب بعض القوات والمجموعات الألبانية كي تبدأ حرب عصابات ضد الحكم الشيوعي في ألبانيا. وقام الضباط البريطانيون بتدريب تلك المجموعات في مالطا، ومن هناك يتم تهريبها بحرا إلى الشواطئ الألبانية. وقد صعق البريطانيون بسبب الفشل الذريع الذي واجهته تلك الخطة، ذلك أنه فور إيصال تلك المجموعات إلى الشاطئ الألباني كانت تتلقفهم قوات النظام الشيوعي وتقضي عليهم دفعة واحدة. ما حدث في الواقع هو أن كيم فيلبي كان قد سرب خطة التدريب البريطانية إلى موسكو، والتي أرسلتها على الفور للنظام الموالي لها في ألبانيا. وفي بعض الحالات وصل حجم بعض المعلومات المسربة إلى موسكو لدرجة فاجأت المسؤولين السوفييت، وأثارت الحيرة في ما إن كانت معلومات فيلبي فعلا صحيحة أم مضللة. فخلال الحرب ذاتها وصل فيلبي إلى ملفات تقول بوضوح إنه ليس لبريطانيا أي جواسيس داخل الاتحاد السوفييتي، وقام فيلبي بإيصال هذه المعلومة المطمئنة إلى موسكو، التي لم تقتنع بأن لندن يمكنها ببساطة ان تغض النظر عن فكرة أساسية مثل زرع جواسيس لها داخل الاتحاد السوفييتي، خاصة في ضوء الوضع السياسي والعسكري المتوتر في أوروبا. سافر فيلبي في مهمات تجسسية بريطانية، لكن عمليا لخدمة السوفييت، إلى بلدان كثيرة، وكان غطاؤه الأهم العمل الصحافي. وغطى لفترة طويلة الحرب الأهلية الإسبانية وكان قريبا من حكم فرانكو بحكم صلاته البريطانية، لكنه كان يرسل تقاريره إلى موسكو.

حامت الشكوك حول فيلبي ورفاقه في أوائل الستينيات، فذهب إلى بيروت وعاش فيها. لكن زاد تعاظم الشكوك بعد انشقاق بعض ضباط التجسس السوفييت وهربهم إلى لندن وواشنطن، وتقديمهم تقارير صعقت الدوائر الأمنية في العاصمتين، لجهة عمق الاختراق السوفييتي. في ضوء ذلك أرسل جهاز الاستخبارات البريطاني محققين إلى بيروت للتحقيق مع فيلبي. عندما وصل إلى مكتب محطة الاستخبارات البريطانية في بيروت لمقابلة المحقق القادم من لندن، لم يتفاجأ برؤية صديقه القديم نيكولاس إليوت. التقى صديقا العمر، واحد كمحقق وآخر كمتهم بالخيانة الوطنية. اتفقا على اللقاء ثانية لمتابعة الحديث، لكن فيلبي الجاسوس الماهر كان الأذكى دوماً، ففي فسحة الأيام القليلة لحين اللقاء الثاني كان قد تملص من متابعيه واستقل طائرة متجهة هاربا إلى موسكو، التي عاش فيها بقية حياته مدمن كحول، إلى أن مات قبل يشهد انهيار الإمبراطورية التي خدمها، وتحولها الى رأسمالية شرسة هي الأخرى.

(كاتب عربي)
المساهمون