يتنهدون بتحسّر على العمر والرفاق الشهداء الذين صنعوا تلك المعجزات في وجه أقدم وأعتى استعمار في التاريخ، أورثوا القضية لجيل الوهم الضائع والفيسبوك.
كيف يصيغ هؤلاء رفضهم ويربكوا المشهد ويعيدوا القضية إلى الواجهة؟ كيف أوجد هذا الجيل لغته ليقول شجاعته، ويثبت لجده وأبيه أنه ليس أقل إخلاصاً ووفاءً منهم، ولكنه لن يثور سوى بلغته بعد أن أنهكه تكرار السرديات القديمة.
وفي لحظة الحق سيجد الجيل الكبير بكل ما فيه من آثام وخسائر وبطولات وهموم، نفسه يجلس ليتعلّم من جديد من مدرسة غسان كنفاني على يد هؤلاء الذي ظن أنهم لا يعبأون إلا بما ترتديه التفاهة وما يمنحه "الأكس فاكتور" من نجوم، وإن أقصى قضية يمكن أن يشاركوا بها، هي أن يصوتوا لفلسطيني في برنامج للمسابقات.
يوماً قالها كنفاني: "إن الأشياء الصغيرة، حينما تحدث في وقتها، يكون لها معنى أكبر منها، أقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير".
ربما سيكون الأقصى هو السبب، أو الظلم الذي يبتلع القضية وأهلها، وسط عجز الثوار المتقاعدين، وما جلبته أوسلو سيئة الصيت من خذلان ونكران واستعصاء، فلا يجد شاب لم يبلغ العشرين سوى سكين المطبخ ليطعن به قلب من سرقه وأهانه وسخر منه ومن أهله ويفتتح من جديد تاريخ الجرح.
فلسطين الثورة ليست ماضياً من الثوار والاستشهاديين، ليست صوراً أليفة عن الحصار وخطف الطائرات، وتاريخاً من الغضب والصخب والخذلان، ليست أساطير ترويها المخيلات المهزومة وليست مخيمات ملعونة أو مدمرة على أيدي سفاحي العصر في دمشق وبيروت.
فلسطين تنتقل بالجينات، نراها في كل مَلمح حرية فوق الأرض، يتقن قولها اليوم الشباب المقدسي كما أتقن الهتاف لها شباب سورية. فلسطين ليست لاجئين وخيمة، وحماس وفتح وعودة وشتات ومسخن وكوفية وأغنية لمحبوب العرب.
فما وصلت إليه الحال يشبه الخديعة الملونة، أنظمة تستعمل فلسطين لتقتل أخوة الفلسطيني وتبيعه أوهام التحرير بدم الشقيق.
أحزاب تسترزق بفلسطين لتمارس أعتى القتل وأحط أنواع التبرير باسم المقاومة والكائنات الهمجية الهجينة تنشئ خلافة الجماجم من أجل تحرير فلسطين.
ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة. هكذا كتب غسان كنفاني يوماً، ومَن يُرِد أن يعرف ماذا يحصل وسيحصل في فلسطين، عليه أن يتابع جيل التويتر والفيسبوك ويفهم الوجع السوري ويعيد قراءة غسان.
في كل فيديو اليوم من انتفاضة الجرح وثورة السكاكين، سترى سورية حاضرة وكأنها النصف الآخر في المشهد. سورية التي لم تكن قبل تسعين عاماً سوى فلسطين نفسها بلا هذه الحدود.
الصورة تنطق بالهدى، تعلن أن ثورة فلسطين لا تسقط بالتقادم، لا يمكن أن تتكهن من أين ستكون الطعنة القادمة. "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية". صوت غسان كنفاني ثانية يلخص مكامن العطب ويعلن، "لن تستطيع أن تجد الشمس في غرفة مغلقة".
الاستيطان والجدران والاحتلال واختلال ميزان الحق وهيمنة القوة، وبؤس التلمود الموعود، وبطالة المتكرشين من الثوريين القدامى وسياسة التهام الأرض وتلغيم المستقبل بالعدم وقضم الأمل وغطرسة كيان عائم يحاول أن يتجذّر في الهواء مدعوماً بالصمت الدولي و"هذا العالم الذي يسحق العدل بحقارة كل يوم".
لا مناص من الرفض، يستطيع الشاباك أن يخترق أعتى التنظيمات انضباطاً، ولكنه لا يستطيع أن يوقف شاباً في السابعة عشرة مسّته روح فلسطين، فداس بسيارته حاخاماً يشرّع القتل والتهجير منذ خمسين عاماً.
تستطيع دناءة العالم أن تجفف وتشتري منظمات التحرير والمعارضات الرخيصة، وتشغل أهل الجنة بذبح أهل النار، ولكنها لا تستطيع إيقاف شاب في الثامنة عشرة شرّبته كل أنواع الذل والتغيّب وأغرقته بالتفاهة، فقرر أن يبدّل كل إغواء العالم بآلة حادة أو قلم رصاص مبري ببراعة أو سكين لحزّ البطيخ، فحمل ما وجد ونزل إلى أقرب مستوطن مهجّن من حقارة ضبع ودناءة ذئب مسعور يتقن تعاليم مائير كاهانا، ليطعنه في زلعومه الدنيء ويستشهد على الفور. كيف توقف هذا؟
سيقول المتقوّل إن هذا مدني بريء وسيصفعك بالمزيد من خبرات المتحضّرين حول العنف، ويهجوك بمعلّقات قتل الأبرياء. أيُّ نذالة في هذا العالم أن يقبلك مثكولاً ومحتاجاً ومقتولاً طوال الوقت، بأحسن أحوالك مهمّشاً ترعاك مؤسسات دولية كي لا تنقرض، "تتحسّن" عليك بالطعام والشراب وتقبض باسمك الملايين وتبقيك على شفير الهاوية، فإذا أعلنت أنك لم تعد تريد كل هذا الهراء، وإن هؤلاء ممّن يسمون مستوطنين ليسوا سوى دواعش من الكهف القديم نفسه، مجبولين من نفس الحقد والكراهية والعنف.
فهذا الذي تتراقص على كتفيه ذؤابتان كشعر ميدوزا ويتأبط العوزي كأنه طفله المدلل، يمارس أعتى صنوف التكفير حتى يبدو الداعشي مسالماً بجواره، يتباهى بحرق أطفال وترميد عائلات وصناعة فطيره من خميرة دمهم، ينهش أعراضهم ويهين مقدساتهم، لا فرق بينه وبين مجندة وضيعة تكتب على يدها وتنشر صورتها: كراهية العرب ليست عنصرية بل هي قيم. فتنال للتو واللحظة آلالف المعجبين.. فلا أحد يراه.
وهنا يجب أن يكون هذا واضحاً للجميع، ليس بالكثيرين من يعرفون ماذا يعني المستوطنون، إلا من يعيش بجوارهم.
إنهم كائنات مجبولة على الاغتصاب وحقد دواعش الكيان ممتزجة بصورة القبح مغموسة بالدم، ولديهم وثيقة من يوشع بن نون نفسه تحثّهم على اجتثاث البشر والشجر لتطهير أرض الميعاد. فلا يجد هذا الشاب سوى أن يستعين - ليس بمحكمة العدل المخصية - بل بخصب غسان كنفاني وإرث الرفض العظيم.
- أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.
- تسقط الأجساد لا الفكرة.
هؤلاء الفتية من آمن غسان بأنهم لن يتوقفوا عن المجيء ما دام هناك اختلال الاحتلال هو ضابط إيقاع الوجود، هؤلاء الفتية هم من يذكّرون النذل أين تقع القدس وكيف يكون الطريق إليها؟ يدافعون عن أقصاهم عل أن لا يخرج موتور يتهم عصيانهم وثورتهم بأنها ثورة جامع، يصححون مركز الصواب، القدس هنا يا أحزاب الله. يفضحون الأنظمة، بابتساماتهم وهم يُعتقلون؟ يا إله العرش أكثر من مليون ونصف مليون سوري تعرضوا لتجربة الاعتقال خلال الخمس سنوات الماضية، يشعرون لسبب غامض بالأسى الحامض، يا ليت من يعتقلني يشبه هذا المحتل.
يلهجون باسمها، نزيهة كما يليق، أبيّة كما هي حقيقتها، ولّادة كما يشهد لها الاحتلال قبل الاختلال الهروبي اليعربي. يعيدون دوزنة الحقيقة بعد أن مارست قنوات وسنوات وظلالات كثيرة دورها في تشويه الصواب، فيمتشقون عبارة كنفاني الخالدة: "كنت أريد أرضاً ثابتةً أقف فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشّة معلّقة بالهواء".
السلطة الممثلة لهم لا تمثّلهم، والمقاومة التي تكتفي بالدفاع والتبرير نفسها لا تمثّلهم، وقاتل أطفال القصير والزبداني الطائفي الذي يذبح إخوانهم في سورية لا يمثّلهم، وآيات الله في فارس وقم لا يمثلونهم.
لقد فاجأوا الجميع، خرجوا من مجموعاتهم على الفيسبوك، من مشاغلهم المتهمة بالهيافة والساذجة، من الصورة المدانة لجيل جديد، فيطعنون الفراغ، يجرحون السياج، لم يعد يمكن تكليسهم، إنهم يمزقون الصورة ويصرخون بالتكبير ويفجرون الصمت المؤثث بكل أنواع الخيانات.
إنهم يولدون فجأة وكما يقول المعلم الكنفاني فهو واحد من أكثر من فهمهم اليوم استشهد قبلهم بكثير وترك لهم الإرث الصحيح المعافى ليتعلموا منه.
"لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة: كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق".
وما كان لهؤلاء الفتية أن يكونوا شهداء بهذا الجمال لولا أمهاتهم سليلات خيمة أم سعد، أمهات يخلفون الأولاد كي تأخذهم فلسطين، يعودون إليهن مكللين، يانعين، كما يوم مولدهم، محمولين على ظهر أهزوجة، مبتسمين بضراعة، فتزغرد أم سعد من جديد. إنه الحب يعلن في قلب الموت فيسبب الرعب لكل احتلال.
"هل هناك ماهو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟" يشخص الكنفاني كل المسألة.
في سورية الجريحة المتعبة الموجوعة حد الفجيعة، نرى أخوتنا في فلسطين، نرمي معهم الحجر، فتأتينا البراميل والصواريخ.
لا نتعب، نؤمن بفلسطين أكثر كما نعشق تراب سورية، تأتينا عصابات باسم الله واسم الأبد تنحرنا أمام الشاشات، موتوا يا أولاد الشر... يصورون دمنا النازف على إيقاع صوت المستوطن الشامت، هو نفسه صوت الشبيح المبرر لموتنا منذ أن أسلم محمود الجوابرة الروح، يوم 18-3 -2011 لم نتوقف عن الموت ولا يوم واحد ولم نسترح، واليوم فقط نتناوب على الشاشات بيننا وبينكم.
لا نتعب، يخربون يقصفون، يهجّرون، نفيض بالشتات مثلما فعلتم سابقاً، نتحمل استياء الأشقاء وضيق الأقرباء ونردد معكم (بلاد العرب ما أوطاكي) نتذوق أكثر من ألف نوع من الموت المحرم دولياً، وبعد كل جولة يسألوننا، يختبرون مناعتنا وقدرتنا، هل تعبتم؟ نعتقد بأن عليكم التحلي بالعقل والرضوخ لقاتلكم، كما يقولون لكم. فلا نجد سوى أن نرقص معكم ونرمي هذا العالم السافل بحجر مقلاع ونطعنه بسكين، ونموت ونحن نقول الحرية لسورية والحرية لفلسطين.
ونكتشف أن حرية القدس هي حتماً من حرية دمشق. وعاجلاً أم آجلاً هذا ما سيكون. بهذا الجيل أو بجيل آخر.
في المقهى نفسه ستجد من تركت الثورات الماضية علامتها الفارهة على جسده وما زالت به تلك الروح الحقيقية التي تسمى حرية فلسطين لم يعد ينتقد هذا الجيل أبو شعر المملوس بالجل والممسوس حقاُ بتلك المأثرة الفاخرة التي تسمى حرية فلسطين. إنه فقط يراجع كل ما سبق.
(سورية)