يثير التحقيق الاستقصائي، الذي أجراه الصحافي الإيطالي كلاوديو غاتي للكشف عن الهوية الحقيقية للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي (1943)، جملة من التساؤلات حول سيرة الاسم المستعار في الثقافة الإنسانية، ومفهوم الاسم تاريخياً، وعلاقته بمنظومة الرقابة على الكتابة بكل أشكالها، إذ أجرى الصحافي بحثاً مضنياً يتشابه في جهده مع التحقيقات الجنائية، وصل فيه إلى الحسابات المالية للكاتبة.
لم يكن غاتي يكشف عن أسرار تمسّ الأمن الوطني لبلاده، إنما كرّس جهده للوصول إلى الاسم الحقيقي للروائية التي عرفها القارئ العربي بروايتها "أيام الهجران"، الصادرة عن "دار شرق غرب" عام 2007، حيث ظلّت لعقود طويلة تتوارى خلف هذا الاسم، وترفض كل المطالبات التي تقدّم بها القرّاء والصحافيون للتعرّف إليها.
لا تشكّل فيرانتي في المشهد الثقافي العالمي سوى مثالٍ عن الكثير من الوجوه التي اختبأت خلف أسمائها الوهمية، فالصحافي نجح في الكشف عن هويتها في تحقيقه، إذ تأكّد أنّ فيرانتي هو اسم مستعار لـ أنيتا راجا، التي تعمل مترجمةً عن الألمانية، وتتعامل مع دار النشر التي أصدرت كلّ كتاباتها (إدزيوني إي/ أو).
وصل كلاوديو غاتي إلى تلك "الحقيقة" بعد أن قاده تحقيقه إلى وثائق متعلّقة بالممتلكات العقارية لـ أنيتا راجا والحسابات المالية لدار النشر، ووجد أنّها اقتنت بيتاً يتكوّن من سبع غرف في أحد أحياء روما الراقية وبيتاً ريفيّاً في توسكانا، إضافة إلى أن زوجها، الكاتب دومينيكو ستارنوني، اقتنى بيتاً في روما بمساحة 230 متراً مربّعاً تصل قيمته إلى قرابة مليوني يورو، وذلك كلّه بالتزامن مع النجاح المالي الكبير، والرواج الذي حقّقته كتب فيرانتي عقب ترجمتها الإنجليزية.
تبدو حكاية فيرانتي واحدة من مفارقات الكتّاب العالميين، فكثيرة هي الأسماء التي نشرت مؤلّفات بأسماء وهمية، إلا أن المعاين لتلك الحكاية يجد أنها تفتح الباب على مفهوم الاسم وعلاقته بذات الكاتب، وقدرته على التحوّل إلى هوية منفصلة، وكيان قائم بذاته، فكل الأسماء الوهمية التي استخدمها الكتّاب أخذت مكانها في تاريخ الأدب الإنساني، ولم يعد كتّابها الحقيقيون سوى ظلال لتلك الأسماء الكبيرة.
ليس ذلك فحسب؛ فالمتّتبع لدوافع الكتّاب في هذا الشكل من التواري، يجد نفسه أمام تاريخ طويل من التحوّلات الفكرية والسياسية التي شهدها العالم على مرّ العصور، فالكثير من الكتّاب لجأ إلى الاسم الوهمي أو المستعار هروباً من الرقيب ومقصلته الحادّة، والبعض الآخر تحسّباً للمكانة الاجتماعية التي يحتلّها، فالكتابة في بعض المجتمعات ظلّت للمهمّشين، إلى جانب أن الاسم الوهمي بالنسبة إلى بعض الكاتبات كان الغطاء الاجتماعي الذي يمنع "العار" عن عائلتها، إلى جانب أن البعض منهم كان له رؤيته الشخصية في الأدب التي تدفعه إلى تبنّي هذا الخيار.
يتأكّد هذا بالرجوع إلى سيرة كبار كتّاب الأدب العالمي والعربي الذين استخدموا أسماء وهمية؛ فالروسي أنطون تشيخوف استخدم أكثر من خمسين اسماً مستعاراً، إلا أنه، وبإلحاح من صديقه الناشر والصحافي سوفورين، بدأ يوقّع قصصه في مجلّة "نوفويه فريمي" (العصر الحديث) باسمه الحقيقي، واستمر في الوقت نفسه باستخدام الأسماء المستعارة في الصحف الساخرة. ومن الأسماء التي استخدمها: أنتوشا تشيخونتي، وبالداسوف، ورجل من دون طحال، وطبيب من دون مرضى، وشقيق أخي، ورجل عصبي، ودون أنطونيو تشيخونتي، والعم، وشاعر نثري، والعقيد كوتشكاريوف، والعجوز الشاب، والقرّاص وغيرها.
وعلى المنوال نفسه اختفى جان باتيست بوكلين خلف قناع موليير، وكان فولتير هو الاسم المستعار للكاتب الفرنسي فرانسوا ماري أرويه.
لهذا الشكل من الاختباء خلف الاسم شواهد عديدة، وفي العربية ما يوازي ما في الثقافات الأخرى، والقديم منها يفوق المعاصر والحديث، فهمّام بن غالب هو "الفرزدق"، و"صريع الغواني" هو مسلم بن الوليد، و"ديك الجن" هو عبد السلام بن رغبان الحمصي، وحديثاً "أدونيس" هو علي أحمد إسبر، و"ياسمينة خضرا" هو محمد مولسهول.
مقابل هذه الوقائع التاريخية التي لا تضيف جديداً إلى جوهر الثقافة الإنسانية، تنكشّف طاقة الاسم كتكوين لغوي قادر على استيعاب محمولٍ مادي متمثّل في "الجسد"، ومحمول ذهني متمثّل في النتاج الإبداعي، ومحمول أخلاقي حاضر في تصوّرات القراء، وتحويل كل ذلك إلى مفردة ذات تكوينات أفقية أو عمودية، وفق اللغة التي يحضر فيها.
قدّم يوهانس فريدريش أطروحة مفارقة لهذا التعبير اللغوي في كتابه "تاريخ الكتابة"، إذ رجع إلى التاريخ الذي استطاعت فيه الإنسانية الانتقال من "الكتابة بالفكرة" التي تستند إلى دلالات الرمز، إلى الكتابة بالأبجدية، مروراً بمرحلة "اللوغوغرافيا"، و"الكتابة المتقطّعة".
خاضت المفردة في تلك المراحل تجربة عسيرة كان العقل البشري هو السبيل إلى خلاصها في كل مرّة، للحدّ الذي بات الاسم ضرورة للحضور الإنساني، ولازمة جوهرية للكاتب، فأي منتج إبداعي لا يحمل قيمته من دون الانتساب إلى مؤلّف، أو مرحلة تاريخية، أو حدث معين، وكأن هذه الحقيقة تضع النص في معادلة جديدة يتحقّق فيها وجوده بشرط الانتساب إلى اسم، حتى ولو كان وهمياً.
ليس ذلك ما تثيره طاقة الاسم وما يقترن به من تاريخ للمفردة، فإلى جانب قدرته على هضم وجود بشري كامل، استطاع أن يكون باباً لتحقيق الخلود على الصعيد الزمكاني، فكل ما هو قائم على المشافهة يكاد يكون لحظياً وعابراً وقابلاً للحذف والإضافة ومنزوعاً من سياقه، ويستلزم حضوراً في المكان ذاته لتتحقّق فكرة الإيصال اللغوي، في الوقت الذي تتجاوز الكتابة كل ذلك، محقّقةً خرقاً في الزمن والجغرافيا.
يتحقّق هذا الخرق الزمكاني منذ تاريخ ولادة اسم الكاتب على نصّه، فالكاتب بذلك يتجاوز وجوده المادي القابل للفناء إلى وجود آخر أقرب إلى الأزلية، وعابر للجغرافيا بكل أشكالها، وكأن العلاقة بين الكاتب واسمه تتحوّل إلى مسألة وجود، فلو ظلّت الأسماء الوهمية للكتّاب مجهولةً، لتحقّق التجاوز الزمني للاسم رغم وهميته، وانتفى الوجود المادي للكاتب رغم حقيقته.
لا يكفي ذلك لتتبّع طاقة الاسم كتكوين لغوي في تاريخ الكتّاب والأدباء، فالكثير من الأسماء الوهمية كشفت عن العمق النفسي والتكوين السيكولوجي للكاتب الحقيقي، إذ ظهرت عقدة قتل الأب عند بعضهم، وظهرت النرجسية المرضية عند آخرين، وتكشّفت صور الاغتراب لدى البعض الآخر، فالكاتب في اختياره اسمه الوهمي يحاول الولادة من جديد على الصورة التي يشاء، متخلّصاً ممّا هو عليه تاريخياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نهاية استعارة
رغم أن أعمالها ستحتلّ واجهة المشهد الأدبي عالمياً منذ 2010، ظلّت إيلينا فيرانتي متمسّكة باسمها المستعار، والذي تعزوه إلى: الخجل، واعتقادها بأن "الكتب ما أن تُؤلَّف، حتى نكون في غير حاجة لمؤلّفيها"، ما زاد القرّاء والنقّاد فضولاً؛ قبل سنوات، أُجريت دراسة لتحليل أعمالها بقصد كشف هويتها، لكن تحقيق كلاوديو غاتي، يُعدُّ الأهم؛ إذ وصل إلى أنها أنيتا راجا (الصورة)، مستنداً في ذلك إلى أدلّة ملموسة.