في كتابه الصادر أخيراً عن "دار بايار" الباريسية تحت عنوان "فن التمرد: سنودن، أسانج، مانينغ"، يتناول الباحث الفرنسي جوفروا دولاغانيري، المتخصص في علم الاجتماع السياسي، ظاهرة كاشفي المستور الذين اشتهروا في السنوات الأخيرة بتسريبهم معلومات سرية من الدول الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة.
يتعلق الأمر تحديداً بإدوارد سنودن وجوليان أسانج وتشيلسي مانينغ الذين تحوّلوا إلى رموز عالمية للمقاومة، مقاومة الدولة المستقوية بأسرارها وبآليات القمع القانونية وبرامج المراقبة والتجسس السرية داخل وخارج حدودها. ويرى الباحث الفرنسي أن هؤلاء ليسوا أبطالاً في فضح جرائم الدولة فحسب، بل شخصيات نموذجية وفرسان نبلاء بالمعنى السياسي للكلمة، يحتذى بهم في إعادة ابتكار فن التمرد والتمهيد لاختراع أشكال جديدة للفعل السياسي.
عن دوافع اهتمامه بهؤلاء "الفرسان الثلاثة"، يقول الباحث في المقدمة: "هذا الكتاب ثمرة لإحساس غامر بالتعاطف إثر الضجة العالمية التي خلفوها في وسائل الإعلام والهستيريا العميقة التي خلقتها تسريباتهم في الأوساط الحاكمة في الغرب. هؤلاء النشطاء الثلاثة الشجعان ضحّوا بحريتهم ومستقبلهم المهني في مواجهة جبروت الإدارة الأميركية"، مذكّراً بالقمع العنيف الذي واجهوه. فجوليان أسانج يعيش منذ نحو عامين لاجئاً في سفارة الإكوادور في لندن، وإدوارد سنودن لاجئ في روسيا. أما تشيلسي مانينغ فقد حُكم عليه بالسجن 35 سنة نافذة في الولايات المتحدة.
يؤكد الباحث الفرنسي أن ممارسة التسريب على طريقة ويكيليكس، بطريقة فردية ومجهولة، وتعميم الأسرار عبر الإنترنت لأكبر عدد ممكن من المتلقين، يؤشران إلى حدوث قطيعة مع أشكال الاحتجاج التقليدية التي يغلب عليها الطابع الجماعي. فنحن أمام أفراد يتحلّون بشجاعة منقطعة النظير يبتكرون نوعاً جديداً من النضال والمقاومة بشكل فردي ويوجّهون ضربات موجعة لآلة الدولة. كما أن هذه الأساليب المبتكرة، بحسبه، "تجعلنا نتساءل من جديد حول المواطنة والسياسة وآليات اشتغال النظام الديمقراطي، ونعيد التفكير في مفاهيم تبدو لنا كمسلّمات لا يمسّها الشك مثل المواطنة والانتماء والقانون والدولة والفضاء العام".
إلى أي بلاد ننتمي؟ وهل إفشاء أسرار الدولة وفضح جرائمها "خيانة عظمى" بالفعل؟ وهل لدى المواطن الحق في طلب الطلاق من دولة لا تحترم مبادئه وأخلاقه؟ أسئلة أخرى جوهرية وجديدة أثارها سنودن ورفاقه عندما زامنوا بين تسريب الوثائق وبين الهرب من أوطانهم ثم طلب اللجوء في منفى اختياري.
"سنودن لم يخن وطنه، يقول الكاتب، لقد استقال منه ومن قوانينه القمعية وكأن لسان حاله يقول: هذه القوانين لا تعنيني في شيء". ويستنتج جوفري أن الإضافة الأساسية لسنودن ورفاقه تكمن في إرغامنا على التفكير في الأبعاد المنافية للديمقراطية وآثار الرقابة في نظام يتغنّى بالديمقراطية ويدعو نفاقاً إلى تقديس أسسها ومبادئها.
نقطة البداية، بالنسبة إلى سنودن وآسانج ومانينج، هي إرادة إحياء النموذج الديمقراطي في جانبه الأكثر إشراقاً والتفكير في نواقصه البنيوية، في وقت تسعى فيه الحكومات والدول إلى تعليق العمل بأسس الديمقراطية والاختفاء وراء ذريعة الحرب على الإرهاب والدفاع عن الأمن القومي من أجل فرض القوانين الاستثنائية والإجهاز على الحريات بوسائل قمعية جذرية مثل الطرد والتجريد من الجنسية والملكية.
هكذا كشف سنودن عبر تسريباته وجود عدة برامج خاصة بمراقبة الشعوب عبر نظام تجسس ضخم يعمل على تخزين الرسائل الإلكترونية والمكالمات والمراسلات الهاتفية التي يتواصل عبرها المواطنون في كل أنحاء العالم. وهذه البرامج تمسّ واحداً من أهم إنجازات الليبرالية والديمقراطية، أي الحرية الفردية واستقلال الفرد عن الدولة.
أما أسانج فقد وجّه نقداً لاذعاً لمبدأ "أسرار الدولة" وفكرة أن للدولة الحق في علبة سوداء سرية لا تخضع للمحاسبة أو الانتقاد وتمس مجالات حساسة مثل الحرب على الإرهاب والعلاقات الدبلوماسية. كذلك فعل الجندي تشيلسي مانينغ عندما وضع آلاف المستندات السرية الخاصة بالجيش الأميركي في موقع ويكيليكس وفضح جرائم هذا الجيش في العراق وظل يتحرك في الخفاء إلى أن كشفت أمره السلطات وعاقبته بالسجن خمسة وثلاثين عاماً.
استعان الباحث الفرنسي ذو الخلفية الماركسية المتجددة بمفاهيم ميشال فوكو عن السلطة والعقاب وآليات الإخضاع، كما وظف اجتهادات جيل دولوز بخصوص مفاهيم الانتماء والترحال، وأيضا تحليلات نعوم تشومسكي بخصوص "دولة القانون التي لا تكف عن خرق القانون" في محاولة لبلورة إطار نظري للرجّة السياسية التي خلقها كاشفو المستور الثلاثة.
نقول محاولة لأن الباحث اختار، بدل الركون إلى أجوبة نظرية جاهزة، أن يفكّر في الأسئلة واستنباط التحديات التي رفعها كاشفو الأسرار الثلاثة في ما يخص العلاقة بين الفرد والسياسة والمصير المخيّب للآمال الذي آلت إليها الديمقراطية كنظام سياسي وأخلاقي.
ويخلص الباحث إلى أن تشبّث الدول بمناطق ظل وعلب سوداء لا تطالها المحاسبة، وتعليقها للحريات الفردية متى شاءت، يفضيان إلى فكرة أن الديمقراطية تبقى، في العمق، وهماً معلقاً فوق الرؤوس، لكونها لم تتحقق أبداً على أرض الواقع. وما أنظمة الحكم الغربية الحالية، بحروبها السرية والمعلنة ودبلوماسيتها المنافقة وقوانينها الخارقة للقانون نفسه، سوى تجسيد ناقص لها باعتبار أن الدولة العميقة والحاكمة الفعلية تبقى في جوهرها الحقيقي منافية للديمقراطية وتظل نقطة ارتكازها الأساس هي إخضاع المحكومين ومراقبتهم بشتى الوسائل غير الديمقراطية.
الدرس الأساسي الذي حملته في طياتها تسريبات ويكيليكس هو التالي: عندما تنشئ الدولة نظاماً خارج المراقبة والمحاسبة فإنها تضع نفسها أوتوماتيكياً خارج الديمقراطية، بل تدوس عليها من دون تردّد.
نجح جوفروا دولاغانيري إلى حد كبير في التقاط الأبعاد العميقة لمبادرات سنودن وأسانج ومينينغ، والتساؤلات التي تطرحها على مستقبل الديمقراطية وعلاقة الأفراد بالدول وأكاذيب الليبرالية السياسية.
نجح أيضاً في قرع أجراس الإنذار والمناداة بضرورة الخروج بالفعل السياسي من التصنيفات الجامدة في سياق سياسي عالمي يضجّ بهستيريا الحرب على الإرهاب وفي ظل النفاق السياسي الصارخ لأنظمة الحكم الغربية في تعاملها مع شعوب ودول بقية العالم. ورغم أن دراسته أُنجزت قبل اعتداءات باريس الأخيرة إلا أنها اكتست سمكاً جديداً وراهنية إضافية على ضوء التدابير الأمنية والقانونية التي أشهرتها فرنسا وبقية الدول الأوروبية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.