فنان الأزمة السوري... تلويحة أخيرة من شبّاك التذاكر

10 يناير 2019
من عمل للفنان العراقي هيوا ك (Getty)
+ الخط -
تأملت مديرة المهرجان عديدَ المقاعد الفارغة بأسى، ثم قالت: "لم يكن كذلك الحال منذ عام، حين دُعيَ، كما اليوم، أحد العازفين من سورية، ليقدم حفلةً على الخشبة ذاتها. وقتها، عجّت القاعة بالناس، وبيعت البطاقات كلّها". 
ربما لم تكن تلك السيدة القيّمة على الأمسية، لتدرك بالسرعة الكافية، أفول الاهتمام بالقضيّة السورية على مدى عام، في الإعلام وبين دوائر الرأي الرسمي والعام. وكيف أن فكرة إحياء حفل ضمن إطار، كان جاذباً لفترة، كالنجاة من أتون الحرب، وقصص اللجوء، التي انتهت إما في البحر، أو في الرسوّ على إحدى يابسات القارة الأوروبية، لم تعد لتجد روّاداً ومتحمّسين كثر، اللهم إلا قلّة من نشطاء الجمعيات الأهلية، وعاملي المنظمات الحقوقية والإنسانية.

في تعليق لشبكة سي بي إس CBS الكندية، أدلت به لويزا تايلور Louisa Taylor، وهي من مؤسسي وكالة Refugee 613 الكندية لرعاية اللاجئين، قالت إن "حجم الدعم الذي أُغدق على اللاجئين بلغ في الأعوام الماضية ذروةً لا سبيل بعدها سوى الانحدار والمزيد من الانحسار" .
بحسب مؤسسة منحة Bertelsman الألمانية، أظهرت دراسة عيّنة من ألفي مواطن ألماني، أخيراً، أن نسبة 54% ترى أن ألمانيا قد بلغت حد الإشباع إزاء استقبال مزيدٍ من اللاجئين، مقابل 40% ممن كان لهم الرأي ذاته عام 2015.
في هذا السياق، تصلُح على السوري، التشكيلي، والكاتب والموسيقي، تسمية فنان الأزمة، من ناحية ارتباط نشاطه الفني والثقافي، مثلما هو اقتران الاهتمام والاحتفاء به - شاء/ت أم أبى/ت - ارتباطاً أساسياً بالمأساة السورية والأطوار التي مرّت بها، من ربيع وثورةٍ، فقمع وعسكرة، جرّا حرباً ولجوءاً ومنفى.

تلك ليست بسابقة سوريّة، فأوروبا وأميركا بعد الحرب العالمية الثانية، أولت المثقفين والفنانين اليهود مثلاً، اهتماماً، باعتبارهم أبرز ضحايا معامل الموت النازية. انسحب ذلك على أولئك الفارّين من الاتحاد السوفييتي، آخر أيام الحرب الباردة، حيث تلقفهم الإعلام الغربي بوصفهم دعاة حريّة، كالمخرج أندريه تاركوفسكي Andrei Tarkovsky وعازف التشيلّو ميستلاف روستروبوفيتش Mstislav Rostropovich. وحين كانت حرب البلقان الأهلية شغل الإعلام الغربي الشاغل، في تسعينيّات القرن الماضي، حظي أمثال المخرج الصربي أمير كوستريكا Emir Kusturica والموسيقي البوسني، الملقّب بعازف تشيلّو سراييفو، فردان اسماعيلوفيتش Vedran Smailović، بالمتابعة الخاصة والحثيثة.
يمكن فهم تلك الظاهرة اليوم، بالإضاءة على نهج اقتصاد السوق، المتحكم بالإعلام وبالصناعة الفنيّة والثقافية في الغرب والعالم، خصوصاً في مرحلة عبور حرجة، تمرّ بها تلك القطاعات على الصعيد الربحي، بفعل تبدل وسائل الإنتاج، في عصر "الاتصاليّة" connectivity، حيث بات هدفها يتركّز، في شبه حال صراع محتدم من أجل البقاء، على كسب الإقبال والارتياد. ولإحراز هذا الهدف، ينبغي اقتران المُنتج الثقافي بقصة تجذب الرأي العام، وبالتالي كلا من الممول المُشترك والمُشتري.
تلك القصة يكبر أثرها وفق قُدرتها على الاستعطاف والاستمالة؛ إذ تمثل، إزاء المنتَج الأصلي، تلك القيمة المضافة Surplus. مثلها كمثل سعر علبة البطاطا المقلية، الذي يُضاف إلى تسعيرة فطيرة اللحم، حين يشتري المرء قائمة طعام Menu من عند سلسلة ماكدونالدز Mcdonalds الشهيرة.
إلا أن القصة السورية لم تكن فرصةَ الفنان السوري وحده، في تحقيق قدر من الشهرة والحضور الإعلامي، إضافة إلى تأمين المعيشة، خلال ظرف اللجوء الطارئ. بل كانت كذلك، فرصة لعديد من الفنانين الغربيين المغمورين، أو المشهورين الطامعين في المزيد، إضافةً إلى مؤسسات إنتاجية، تبحث لها عن مصادر مالٍ مُحْدثة، تستطيع بواسطتها بلورة بعض المشاريع الفنيّة والثقافية العالقة. رأى كل هؤلاء في إشراك أيّ سوري، كاتباً كان أم موسيقياً، في مهرجان مثلاً أو في أمسية، كفيلاً بالحصول على تمويل، سواء من الصناديق الحكومية، أو من المؤسسات المستقلة والدولية، أو ضماناً على الأقل، لحضور جماهيري مقبول، وتغطية إعلامية وافية.
لم تولِ تلك الجهات دائماً، سهواً أو جهلاً، المستوى الفني الأولوية، بقدر ما أولتها للقصة Story؛ أي للسياق السياسي والإعلامي الذي جاء بهذا السوري أو ذاك إلى المنصّة أو إلى خشبة المسرح، بل إن ضعف السويّة في بعض الأحيان، أو سياحيّة الناتج - أي دخوله على المتلقّي من باب البيئة المحلية، كعيّنة ثقافية، من دون اجتهاد في العولمة والإبداع - بدا في غير مناسبة أكثر تفضيلاً، من حيث إرضائه للنرجسية الجمعية الغربية، التي لا تود رؤية اللاجئ الوافد، من منظور الندّية، وإنما الفوقية، فهو إما غريب الثقافة، قاصر الإمكانات، يحتاج الدعم، أو أنه نبتة واعدة، في حال نمت وارتوت في التربة الأوروبية الخصبة. 
المشكلة تكمن في أن القصة السورية تكتسب قيمتها بقدر مركزيتها في وسائل الإعلام. وبالنتيجة، تنحسر تلك القيمة تدريجياً بالضرورة، بحكم ابتعادها عن المركز. فمع إحراز تحالف النظام في سورية مع كلٍ من روسيا وإيران، مزيداً من "الانتصارات" الميدانية، تزامناً مع انكفاء الغرب الأخلاقي والجيوسياسي، وإصابة رأيه العام والرسمي بالوهن، جرّاء احتضان أعدادٍ غير مسبوقة من اللاجئين، إضافةً إلى مخافة الإرهاب والتطرّف من جهة، وصعود تيّار الانعزالية والهويّاتية السياسية داخل المجتمعات الأوروبية من جهة ثانية، أدى ذلك، وسيؤدي، ليس إلى تجاهل المسألة السورية وحسب، وإنما إلى التململ والنفور منها مع مرور الوقت.

سيفرض هذا المُتغيّر تحدّيات جديدة كُبرى على الوسط الفنّي والثقافي السوري في المنفى، منها ما هو محض معيشي واقتصادي، ومنها ما هو فنّي وثقافي، لا يقل أحدها عمقاً ووجوديةً عن الآخر. يبقى الثابت دوماً هو القيمة الأساسية، وليست المُضافة - أي النوعية الفنية، من حيث هي مجموع جودة الصنعة، مع الشحنة العاطفية، والحمولة الفكرية للعطاء المبدع.

بقدر ما يبدو، للوهلة الأولى، أن السوري، فنان الأزمة، قد استفاد من ترؤس الحدث السوري الإعلام والاهتمام في أوروبا والعالم على مدى سبعة أعوام، بقدر ما أفاد وساهم في تسليط الضوء على الجانب الإنساني لقضيّة شعبه أمام الرأي العام الغربي والدولي. وعليه، فإن من واجبه الاستمرار، وإن بالخروج عن الإطار الذي قُدّم وقدّم نفسه من خلاله، والخروج على قواعد السوق الفنية، القائمة على الاجتذاب والإقبال عند الفائدة والاستفادة، ومن ثم التخلّي والإهمال بميل الهوى وتغيّر العادة. لذا، سيلعب الواقع الجديد دوراً جيداً، أشبه بالغربال، في تمييز السوري، فنان الأزمة، عن السوري الفنان، بأزمة أو من دونها.
المساهمون