فلسطين والسياسة الأميركية: انحياز واحتواء

22 يناير 2017
أيباك بوابة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب (مارك ويلسون/Getty)
+ الخط -
لم ينتظر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الدخول الفعلي إلى البيت الأبيض، فسارع لإعلان مواقف منحازة بصورة سافرة لإسرائيل، ينافس فيها أكثر الرؤساء انحيازاً لها، مما يعني أننا أمام ممارسة أكبر للضغوط على الفلسطينيين.
ويمكن من خلال سطور قليلة تقديم حصر سريع لأهم مواقفه الخاصة بالقضية الفلسطينية، حيث انشغلت مراكز الدراسات والبحث العربية والدولية بمحاولة استعراض أخطرها، المتمثلة برغبته بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، فضلا عن رفضه فكرة فرض حل للقضية الفلسطينية من خلال الأمم المتحدة، لأن الحل يجب أن يكون من خلال مفاوضات الأطراف، وسوف يستخدم حق النقض الفيتو ضد أي حل يتبناه مجلس الأمن الدولي.

كما أكد ترامب في غير مرة إصراره على ضمان تفوق إسرائيل النوعي عسكرياً، وتزويدها بالصواريخ، وتكنولوجيا الكشف عن الأنفاق وتهريب السلاح، ومنع الهجمات المسلحة، وقد لا تكون هناك حاجة لتأكيد مواقف ترامب المعادية للمقاومة الفلسطينية، لاسيما المسلحة منها، وسبق له اتهام الحركات الفلسطينية بتربية الأطفال الفلسطينيين على العنف وكراهية اليهود، واشتراطه قبول الفلسطينيين بيهودية الدولة الإسرائيلية؛ وأبدى تشككه في النزعة السلمية لدى الطرف الفلسطيني، زاعماً أن نزعة الإسرائيليين للسلام هي الأوضح. 


الانحياز لإسرائيل
إن مراجعة تاريخية للسلوك الأميركي تجاه القضية الفلسطينية، تمنح سمة ثابتة له، تتمثل بالتصلب الاستراتيجي الأميركي لصالح إسرائيل، ويتضح هذا من متابعة السياسة الأميركية طوال العقود الماضية، حيث سخرت الحكومة الأميركية خلالها جميع طاقاتها لدعم إسرائيل، وتنظيم وضعها في المنطقة عن طريق تطبيع علاقاتها بجميع الدول العربية المجاورة لها.
ورغم أن واشنطن دأبت تتحدث طوال السنوات الأخيرة عن رغبتها بالوصول لتسوية دائمة للصراع العربي الإسرائيلي، لم تقم بأي نشاط جاد فعلي لتحقيق ذلك، لعلها كانت تدرك أن على إسرائيل تحقيق المزيد من التوسع قبل أن يحين أوان مثل هذه التسوية.
وقد شكل انحياز الولايات المتحدة إلى إسرائيل عاملاً رئيساً من عوامل عدائها لحركات التحرر الوطني الفلسطينية، مما جعلها تضرب بحيادها الظاهري عرض الحائط، وأحجمت عن تطبيق سياسة الأمم المتحدة في التوصل إلى حل سياسي للصراع التاريخي، مما أفقدها التوازن، ولو الشكلي في بعض الأحيان.
وفي حين لم تتجاوز المساعدات المالية الأميركية السنوية لعدد من الدول العربية، كالأردن ولبنان ومصر، عشرات الملايين من الدولارات، فقد كانت مساعداتها لإسرائيل تصل إلى مئات الملايين، مما يعطي فكرة عن البون الشاسع بين ما قدمته لإسرائيل، وما قدمته للدول العربية التي طلبت مساعدات، ناهيك عن استخدامها مساعدتها المالية المتواضعة لهذه الدول في الضغط عليها، وهو ما لم يحدث بالنسبة لإسرائيل.

العودة إلى المكتبة الفلسطينية والعربية تقدم للقارئ جرعات دسمة من قراءات تحليلية تاريخية للسياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، حيث انتهجت واشنطن سياسة جديدة في القضية الفلسطينية تقوم، بدلا من طلب الانسحاب غير المشروط، على إجراء مقايضة الانسحاب الإسرائيلي بالاعتراف العربي بإسرائيل، لاسيما أنها لم تصر على أن يكون الانسحاب كاملا إلى حدود ما قبل 5 يونيو/حزيران عملا بالمعنى الظاهري للقرار 242 الذي وقفت وراء إصداره، ولم تعد أميركا تتحدث عن التزامها بصيانة أمن الفريقين معا، ولا عن ضمانها لسلامتهما الإقليمية، بل تتحدث عن التزامها بصيانة أمن إسرائيل، وسلامتها.
قد لا يتسع المقام في هذه السطور القليلة للحديث عن سرد تاريخي للسياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، عبر مراحلها المختلفة، والدوافع الخفية والمعلنة، والتحقق من جديّة الإدارات الأميركية بإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، وهو ما قد يلزمه فهم المؤثرات الداخلية التي تسهم في صياغة السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضية الفلسطينية.


احتواء الصراع
الملاحظ منذ بدء القضية الفلسطينية عام 1948، أن ثوابت السياسة الأميركية تجاهها تمحورت حول:
رغبة الولايات المتحدة الأميركية في احتواء قضية الصراع العربي والإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، تمشياً مع سياسة الاحتواء التي طورتها للتعامل مع الصراعات الإقليمية والكونية، وتهدف هذه السياسة إلى الحفاظ على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وعدم تعريضها لأي أخطار مباشرة أو غير مباشرة.

أتى موقف الولايات المتحدة الأميركية من القضية الفلسطينية، انعكاسا لمواقف هذه الإدارة أو تلك من إسرائيل بشكل عام، ومدى تحالفها معها، وتؤكد كل الوقائع التاريخية والسياسية، أنه كلما تعمق تحالف إسرائيل مع الولايات المتحدة، وتوطدت مكانتها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، تراجع الاهتمام الأميركي بالقضية الفلسطينية، وتحولت إلى مجرد بند مبرم وغامض في مشاريع التسوية الأميركية لقضية الصراع العربي الإسرائيلي.
من الواضح أنه خلال السنوات السبعين الماضية، بقي الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة، أسرى تحت رحمة تزايد الدور الإسرائيلي في الاستراتيجية الأميركية الشرق أوسطية من جهة، والصراع الدائر بين الإدارة الأميركية ومجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل من جهة أخرى.
وكانت النتيجة دائماً التراجع المستمر بمواقف الولايات المتحدة الأميركية من القضية الفلسطينية، وتنكرها لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بها، بل والسعي لإلغاء تلك القرارات، ومساعدة إسرائيل بالتنكر لها، واستخدام مجلس الأمن بشكل خاص كذراع للسياسة الأميركية للدفاع عن إسرائيل وسياستها الرافضة لكل القوانين والشرائع الدولية.
من هنا تنطلق المواقف والسياسيات الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، وهي السياسة الداعمة والمؤيدة للموقف الإسرائيلي تجاه هذه القضية منذ نشأتها عام 1948 حتى الوقت الحاضر، وهي القضية التي لازالت تراوح مكانها، رغم صدور العديد من القرارات الدولية الخاصة بتلك القضية.

وقد استخدمت الولايات المتحدة حق الاعتراض الفيتو 80 مرة منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، ضد مشروعات قرارات قدمت لمجلس الأمن، 42 منها كانت ضد إدانة ممارسات إسرائيل في المنطقة العربية، من بينها 31 ضد قرارات تخدم القضية الفلسطينية، وهو ما يفسر الغضب الإسرائيلي من عدم استخدام واشنطن لحق النقض ضد قرار مجلس الأمن الدولي 2334 الخاص بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، الصادر في ديسمبر 2016.


جماعات الضغط
يكاد يجمع كل من قرأ وكتب عن السياسة الأميركية نحو القضية الفلسطينية، أنه يمكن التأكيد أن الدور الأميركي، كان وما زال، أحد أهم جوانب التأثير في القضية الفلسطينية منذ بداياتها؛ حيث ارتبطت نشأتها أساساً بمصالح القوة العالمية الأبرز في أوائل القرن العشرين، إلى أن احتكرت الولايات المتحدة الأميركية دور اللاعب الدولي الأكثر تأثيراً بمسارها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.
ولذلك حظيت دراسة سياسة الولايات المتحدة، تجاه القضية الفلسطينية، باهتمام متزايد في عدد كبير من الدراسات على مدار عقود، وقد أشارت في معظمها إلى أن الولايات المتحدة، ربما لم تكن يوماً جادة وصادقة في المبادرات التي قدمتها لحل القضية الفلسطينية، إذ تبيّن أن الهدف وراء تلك المبادرات كان فقط إدارة الصراع، وكسب الوقت لصالح إسرائيل، لفرض حقائق تستفيد الأخيرة منها، وأن الولايات المتحدة لم تكن وسيطاً نزيهاً في كل جولات المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ويمكن القول إن محددات السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، داخلية وخارجية، تشمل الأولى الرأي العام وجماعات الضغط، وخصوصاً جماعات الضغط الصهيونية؛ فيما تتضمن الثانية عامل النفط، وإسرائيل ودورها كقاعدة استراتيجية في المنطقة، ولذلك يبدو من غير الممكن فصل الاستراتيجيتين الأميركية والإسرائيلية عن بعضهما البعض، لأن عناصر التخطيط الاستراتيجي لكلا الطرفين مترابطة إلى حد الوحدة.
مع العلم أن هناك قناعة في واشنطن مفادها أن الصحفيّين والدبلوماسيين على حدٍّ سواء، الذين يعودون من الشرق الأوسط، يشهدون أن دعمنا الأعمى لإسرائيل سبب رئيسي لموجة العداء التي تجتاح العالم الإسلامي تجاه الولايات المتحدة.
وليس هناك أدنى شك أن الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل كان مصدرًا هامًّا للاستياء العربي والإسلامي تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ورغم الأعمال الوحشية والمجازر الإسرائيلية الواضحة تجاه الفلسطينيين، فقد تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة دائمًا مع القضية الفلسطينية بتجاهل تام.
ويمكن القول إن الحرص الذي أبدته الولايات المتحدة لحل القضية الفلسطينية نابع من الخوف على مصالحها، نتيجة لإدراكها أن سياستها الخارجية تجاه إسرائيل سببت لها إحراجاً، بل شجّعت من أسمتهم بالإرهابيين على مهاجمتها، وبالتالي فإن هذا التوجه كان تكتيكياً، وظفته واشنطن لاستمالة الدول العربية للدخول في الحلف الذي أقامته لمحاربة الإرهاب، وما لبثت أن راجعت مواقفها، وعادت للتوافق مع المواقف الإسرائيلية، إن تسنى لها تشكيل ذلك الحلف.

أخيراً، رغم أن ترامب أعلن في عدة مناسبات رفضه لاستمرار الاستيطان في الأراضي المحتلة سنة 1967، لكنه لم يحدد أي إجراء عملي لمنع هذا الاستمرار، ولا يشير إلى المستوطنات القائمة فعلاً، وما مصيرها، ولم يحدد إذا كانت القدس تدخل ضمن الاعتراض على الاستيطان أم لا، بعد أن وعد ترامب بنقل السفارة الأميركية لما أسماه عاصمة إسرائيل التاريخية.
لكن الأكثر ترجيحاً أن المسافة السياسية الفاصلة بين ترامب والموقف الإسرائيلي قصيرة للغاية، وقد تكون قضية الاستيطان الأكثر بعداً في هذه المسافة، ما يعني أن لجوءه للضغط الفعلي على إسرائيل، سواء لوقف الاستيطان، أم إلغاء ضمّ القدس، أم تعيين الحدود، أم التعامل مع الفلسطينيين، أمر مستبعد، وربما يلجأ ترامب للتضييق على المساعدات للسلطة الفلسطينية، لدفعها نحو مزيد من التنازلات.

(العربي الجديد)