سنوات تقلب الصفحات كما هي الأحداث تطوى بتفاصيلها، فتغيب التفاصيل وتبقى العموميات التي يحاول أن يستخرج منها الطلبة مفاهيم غابت بغياب الواقع، فلا هم فهموا الواقع ولا عايشوا التفاصيل.
هذا هو الحال، بمناهج تعليمية ترسخ الهوية الوطنية الفلسطينية، لكنها سرعان ما تغيب، وتأتي مناهج أخرى، ربما أكثر وطنية، لكن يغيب عنها كثير من المفاهيم الواقعية، فتشكل "فجوة" الأجيال كما هي فجوة "الوطن" المحتل.
فمنظمة التحرير الفلسطينية بحسب هذه المناهج مؤسسة وطنية لكن لا يعلم الطالب أهمية وجودها، أو كيفية تعزيز دورها، بقدر أنه ينظر إلى واقع تغيب فيه أهمية هذه المؤسسة في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وكذلك الحال فمدينة القدس مدينة محتلة، ويتوجب نصرتها لكن دون "دخول بتفاصيل تؤسس وعيا معرفيا وطنيا في كيفية الدفاع عنها بشكل معلوماتي مبسط".
هذه الملاحظات وغيرها، يسجلها الدكتور أيمن يوسف، المحاضر في الجامعة العربية الأميركية في الضفة الغربية، على المناهج الفلسطينية التي أشرف على بعضها خلال الصياغة، رغم رؤيته الإيجابية في بعض الجوانب التي تتضمنها.
فجوة المراحل
ويشير يوسف في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن المناهج التعليمية الفلسطينية، لا تزال غير مستقرة على مفاهيم موحدة، وهي تمر بحالة تطوير وتعديل ضمن فترات سنوية متقاربة، وهو ما يعني حاجتها إلى المراجعة والتقييم لمعرفة مدى مواءمتها للواقع.
ويسجل يوسف عددا من الملاحظات على هذه المناهج، تتمثل في تركيزها على مضامين تضاف من دون مراعاة تربوية ونفسية للمراحل العمرية التي تقدم لها، وهذا لا ينكر أن هناك جزئية ايجابية في المناهج الجديدة تختلف عما سبقها من نسخ سابقة، وفقا ليوسف.
إلا أن أهم الملاحظات التي يركز عليها يوسف، وهو أحد المشاركين في لجان تطوير المناهج، حديثه عن "الطريقة الميكانيكية" لإعداد المناهج وكتابتها، حيث يرى أنه يتم التركيز على التاريخ أو أحداث معينة دون الخوض في تفاصيل رغم أهمية ذكرها، وهو ما يجعل الطالب يأخذ معلومة غير متكاملة، وقد تساهم في إحداث ما يمكن تسميته "فراغا معرفيا في الوعي الوطني".
ويضرب يوسف مثالا على ذلك، في أحد المناهج التي تقدم جدار الفصل العنصري الذي يقيمه الاحتلال بالضفة الغربية، ويعزل المدن عن بعضها، على أنه جدار أسمنتي، وبمجرد عدم ذكر التفاصيل المتكاملة من شأنه أن يقدم معلومة منقوصة للطالب.
قفزة الواقع
بدوره، يرى د. فادي عصيدة، المحاضر في جامعة النجاح، شمالي الضفة الغربية، المناهج بطبعتها الحديثة أفضل من حيث التقييم عما سبقها من مناهج، فهي قدمت القضايا الوطنية بشكل أفضل، وأفردت مساحات أوسع.
ويشير عصيدة في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن القدس والشهداء والأسرى كلها قضايا أخذت مساحات أوسع، وقدمت بشكل أفضل عن السابق، وهو ما يجعل منها نسخة أفضل عما سبقها.
إلا أن ما ينقص العملية التعليمية، وفقا لما يراه عصيدة، هو غياب "الطالب المتفهم"، فما يواجهنا في كثير من الحالات أن المعطيات التي تتضمنها المناهج قفزت عن حالات كثيرة من التفاصيل، وبالتالي لا يعي الطالب ما حدث فيها كونه لم يعشها.
ويوضح عصيدة بالقول: هناك حالة ضعف في الوعي المعرفي الوطني لدى طلبة المدارس، وهي ناتجة عن ضعف ثقافي، أساسه إما عدم قدرة الأستاذ على تقديم المعلومة، أو تبسيطها، أو طول المنهاج وعدم وجود الوقت المناسب للخوض في التفاصيل.
ولعل ما يترتب على ذلك وفقا لعصيدة، هو قفز الأستاذ عن بعض المقاطع أو المحطات بالمناهج، أو حتى الاقتصار على سطحية التقديم، لمناسبة الوقت المتاح لإعطاء المنهاج حقه.
تراكمية الوعي الوطني
وما بين فجوة المناهج القديمة والحديثة، يرى الأستاذ عمر ميادمة، أهمية وجود حالة من "التراكمية في الوعي الوطني لدى طلبة المدارس"، فهذه الأجيال يتوجب أن لا تكون ضمن حملة التجريب في المناهج، بل يتطلب أن يقدَّم لها منهاج مسترسل في جميع مراحلة حتى لا تتسع الفجوة المعرفية الوطنية".
ويشير ميادمة في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن أبرز الملاحظات التي تؤخذ على الأجيال في المدارس الفلسطينية هي ضعف المعلومات، أو عدم ترابطها، وهذا ناتج لعدة أسباب منها ما يتعلق بالواقع الفلسطيني الغير مستقر، ومنها أيضا عدم وجود حالة تواصل في المناهج التي يتم تعديلها بشكل متقارب.
ورغم ذلك، يرى ميادمة أن المنهاج الحالي ربما يعد الأفضل من بين المناهج الفلسطينية التي تقدم للطلبة، إلا أنه لا يزال هناك ملاحظات مختلفة عليه، خاصة عدم ملاءمة المضامين مع المدة الزمنية التي يجب أن يدرس فيها.
آليات التعزيز
حالة الانتقاد للمناهج التعليمية، لم تُنس المتحدثين أهمية إحداث تكاملية لتعزيز الوعي الوطني، وهو ما يتطلب خطوات عملية، وأخرى منهجية يمكن أن تتكامل من خلالها العملية التعليمية في إطار وطن لا يزال يعيش تحت الاحتلال.
حيث يرى الأستاذ عمر ميادمة، أن إحدى الخطوات التي تقع على عاتق المدرسين هي محاولة تعزيز المعرفة الوطنية بأثر رجعي للطلاب لتقليص الفجوة ما بين المعلومة الواردة في المنهاج والواقع الذي لم يعيشوه في فترات زمنية معينة.
ويشير ميادمة إلى أن أحد الأساليب التي يتبعها هو اللجوء إلى الوسائط المتعددة من صور وفيديوهات وغيرها يمكن أن تختزل جهدا كبيرا يحتاجها الأستاذ، فيما تشكل أساليب جذب من شأنها أن ترسخ مفاهيم وطنية لم يستطع الطالب ملامستها في المنهاج المقدم.
وهذا ما يؤكد عليه د. فادي عصيدة، الذي يرى في الأنشطة اللامنهجية دورا مكملا، ويمكن أن يلجأ لها الأستاذ في بث الوعي الوطني، سواء أكان ذلك من خلال استضافة الشخصيات الوطنية التي عايشت تجارب مختلفة، أم إفراد مساحات للأنشطة التي تربط ما بين المضمون المقدم والواقع الذي تعيشه فلسطين.
أضف إلى ذلك، يرى عصيدة أنه من المهم أن يكون هناك تكامل ما بين دور الأهل والمدرسة ومؤسسات المجتمع المدني التي من شأنها أن تقوم بواجبها الوطني ومراقبة العملية التعليمية، وسد الفراغ في بعض من الجوانب من خلال تعزيز الجوانب الوطنية بالفعاليات المجتمعية التي تفتح الباب أمام مشاركة الطلبة.
أما الدكتور أيمن يوسف، فيرى من جانبه أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، أمر حتمي، وبالتالي يتطلب أن يتم التركيز على الجوانب العملية في المناهج وتقديمها بحالة مبسطة، إلى جانب إعادة تأهيل وتدريب الأساتذة بما يتناسب والمناهج الحديثة.