فلسطينيو تشيلي... نجاح وتركيز على الهوية

28 أكتوبر 2018
فلسطينيو تشيلي يتظاهرون رفضاً لنقل السفارة الأميركية للقدس(فرانس برس)
+ الخط -
بحسب تقديرات ودراسات متخصصة في جامعة العاصمة التشيلية، سانتياغو، فإن تاريخ الهجرة الفلسطينية إلى هذا البلد في أميركا الجنوبية يسبق بعقود كثيرة تاريخ النكبة الفلسطينية عام 1948. ففي العهد العثماني وجد المهاجرون الأوائل طريقهم الشاق وصولا إلى تلك البلاد البعيدة، ومن بين هؤلاء حضر مهاجراً في 1906 جد جد المحامي الفلسطيني-التشيلي، أنور مخلوف الذي يحتل اليوم منصب المدير التنفيذي للجاليات الفلسطينية في هذا البلد، والذي تحدث لـ"ملحق فلسطين" حول تاريخ وتطور وواقع الجاليات الفلسطينية.
ولد الشاب مخلوف في سنتياغو وتعود أصوله إلى بيت جالا بفلسطين، إذ إن أصول النسبة العظمى من فلسطينيي هذا البلد وجارتها البيرو تعود إليها وإلى بيت ساحور وبيت لحم. وتقدر أعداد من هم من أصول فلسطينية في تشيلي بنحو نصف مليون إنسان، وهو أكبر تجمع للشتات الفلسطيني خارج المنطقة العربية، وهو ما يؤكده مخلوف باستعادة مثل شعبي تشيلي يقول "في كل قرية ومدينة على الأقل  ستجد شرطيا وقسا وفلسطينيا"، لأن الهجرة العربية الأولى إلى هذا البلد شكل الفلسطينيون ما يناهز الـ90 في المائة، فأجدادنا نشطوا منذ البداية تحت مسميات عربية أيضا، وأسماء المؤسسات والأندية كانت تحمل الصفة العربية، بوجود مهاجرين من لبنان وسورية أيضا، ما يؤكد حرص الأجداد منذ البداية على عدم القطع مع الجذور.
يذكر مخلوف أن تاريخ الجالية الفلسطينية في تشيلي، وعموم أميركا الجنوبية، لم يكن معبّدا بالورود، بل عانى المهاجرون الأوائل، وأبدعوا عملا وانخراطا في مجتمعاتهم الجديدة. وبلكنة تشيلية/إسبانية، يتحدث مخلوف عن حالة الانخراط في مجال الأعمال وصعوباته "للحفاظ أولا وقبل كل شيء على اللغة العربية كمدخل للحفاظ على العادات والتقاليد الفلسطينية".
وبالرغم من انشغالات المهاجرين الأوائل بالأعمال، وهي بدايات كان يضطر فيها بعض فلسطينيي أميركا اللاتينية للتجوال بين القرى والجبال يحملون حقائب لبيع السكان المحليين بعض حاجياتهم التي توسعت إلى حد يذكر معه الكاتب والباحث في شؤون فلسطينيي اللاتينية، زياد العالول، لـ"ملحق فلسطين" أن "هؤلاء اليوم يهيمنون بنحو 60 في المائة على الاقتصاد التشيلي، وبينهم رجال أعمال وسياسيون وأصحاب مناصب مرموقة في تشيلي".

أنشطة وهاجس الهوية
يذكر أنور مخلوف أن في مدن تشيلي المتعددة "لا بد أن يتواجد فيها ناد عربي، إذ أسس أجدادنا الفلسطينيون منذ البداية، نوادي تعنى بشؤون اللغة والثقافة والتقاليد وتعتبر منطلقا لكثير من النشاطات واللقاءات، وأبوابها مفتوحة أمام التشيليين ليتعرفوا على من هم من أصول فلسطينية". إلى جانب تلك الأندية انتشرت أيضا مدارس تعليم اللغة العربية، وتنشط جمعيات وأندية متعددة الأهداف، ولعل "أكثرها نشاطاً هي الجمعيات النسائية الفلسطينية التي شكلت مدخلا للحفاظ على عادات وتقاليد فلسطينية من الاندثار، بفعل المخاوف من حالة الذوبان التي تصيب الأجيال الجديدة بعد أكثر من 150 سنة من الهجرة".
ويعتبر مخلوف أن "انتشار منظمات طلابية فلسطينية وشبابية ساهم في تعزيز الهوية والانتماء، وهي من الأمور التي يستعاد هذه الأيام التركيز عليها". ويعتبر مخلوف أن تأسيس فريق "فلسطين" لكرة القدم في تشيلي حافظ إلى حد كبير على جانب الوعي بين الأجيال الفلسطينية بقضية بلادهم وانتمائهم. ويعترف مخلوف، وغيره من الناشطين في صفوف الجاليات الفلسطينية في أميركا اللاتينية، بأن مسألة "اللغة تعتبر مهمة جدا بعد أن فقد الجيل الجديد لغته الأم العربية، ورغم ذلك لا يمكن القول إن ذلك يقف عقبة في مسألة الهوية الفلسطينية إلى جانب التشيلية، وعليه نحاول بكل الوسائل أن نحافظ على لغة النشء الفلسطيني في تشيلي وغيرها، بل ونعتبر انتشار اللغة بين الشباب الفلسطيني عملا أساسيا في نشاطاتنا اليومية، وبجهود نحاول أن لا نقصر فيها، إذ نعتبر اللغة مفتاحا أساسا لبقاء الهوية الفلسطينية بعد مرور كل تلك العقود الطويلة على حالة الهجرة البعيدة عن العالم العربي".

مظلة تجمع المؤسسات... وإبعاد شبح الانقسام
مرّ العمل الفلسطيني في تشيلي، أسوة بمناطق أخرى في أميركا اللاتينية والجنوبية، بمراحل مختلفة، وشهد مدا وجزرا في "المسائل التنظيمية وبنية المؤسسات، لكن بقيت مهمة نشر الوعي بالقضية الفلسطينية والثقافة محور كل الجهود" ويشرح المدير التنفيذي لمظلة الجاليات الفلسطينية، التي تضم عددا من المؤسسات يصل إلى نحو 13 مؤسسة، وجرى تغيير اسمها من الفيدرالية الفلسطينية إلى مؤسسة الجاليات الفلسطينية، أن "الإبقاء على الوعي بفلسطين يشمل أيضا المستويات الأكاديمية، فالحركة الطلابية في سانتياغو تنشط في الجامعات والمؤسسات التعليمية، وقد شكل الطلبة الفلسطينيون ما يشبه اللوبي فيها". وعموما تتفق تلك المؤسسات الفلسطينية العاملة في صفوف جاليتها الكبيرة على "أنشطة ليس فقط في صفوف الأبناء بل تشمل التشيليين واللاتينيين والمقيمين على مستويات أكاديمية تقوم بدعوة هؤلاء إلى فلسطين لرؤية الواقع الفلسطيني على الأرض، ويشمل ذلك أيضا البرلمان التشيلي حيث ننظم زيارات لبرلمانيين للاطلاع على واقع فلسطين في ظل الاحتلال، وآخر زيارة شملت 11 عضوا من البرلمان التشيلي، إضافة إلى اجتماعات دورية مع وزارة الخارجية والوزراء في سنتياغو، ويمكن القول إن الجاليات الفلسطينية في تشيلي متفقة على برنامج مشترك يشكل فيه الفلسطينيون ما يشبه اللوبي وله نفوذ كبير في السياسة التشيلية في القضايا العربية وخصوصا لجهة توضيح خروقات حقوق الإنسان التي تتم للقانون الدولي على أرض فلسطين". ويؤكد مخلوف أن التعاون يشمل منظمات المجتمع المدني وغير الحكومية في تشيلي وبقية أنحاء أميركا اللاتينية، وتستضيف الجاليات ضيوفا ومتحدثين من فلسطين والعالم العربي "وتلك الأنشطة يحضرها وبحماسة مئات الفلسطينيين والتشيليين والعرب، إن على مدرجات الجامعات أو في ندوات ومهرجانات تقيمها الجالية الفلسطينية بشكل دائم".
في مقابل قوة وصلابة العمل الفلسطيني في أميركا اللاتينية، وتحديدا بهذه الضخامة في تشيلي، مقارنة بأعداد فلسطينييها، لا تقلّ مخاوف المدير التنفيذي، أنور مخلوف، من تأثير حالة الانقسام الفسطيني-الفلسطيني على واقع وعمل الجالية، وعن ذلك يمضي قائلا إنه " للأسف يحاول البعض نقل تلك المشكلة (الخلافات الداخلية) إلى أميركا اللاتينية، وكثيرا ما نوضح لتجنب هذا الاستيراد للمشاكل التي يمكن أن تؤثر سلبيا على عمل مؤسساتنا، أننا جاليات لا نمثل أحزابا وتيارات، بل نحن جزء من الشعب الفلسطيني وعملنا محلي يتعلق بمجتمعاتنا التي نقيم فيها خدمة لقضيتنا ولقضية شعبنا في فلسطين، نحن حين نقيم دورات للراغبين بتعلم اللغة العربية والاطلاع على الثقافة والتقاليد، وننظم رحلات إلى فلسطين، وتلك يشارك فيها الكثيرون، فلا ننطلق من انتماء ضيق لهذه الجهة أو تلك، بل هدفنا الأسمى فلسطين وحقوقنا". ويؤكد مخلوف أنك "حين تعمل مع منظمات تضامنية، وهي كثيرة، فأنت تدعوها لدعم قضيتك وليس انطلاقا من حالة فصائلية أو جهوية لتنظيم ما، وعليه من المهم أن لا نسمح للاختلافات في داخل فلسطين، بين أحزاب وتيارات، أن تتغلغل إلى صفوفنا". ولدرء تلك التأثيرات يذكر مخلوف "هؤلاء الذين لديهم أفكار تقسيمية لا يسمح لهم، وهم ليسوا أقوى منا نحن الذين نصر على أن تكون وحدتنا عنوانها خدمة قضيتنا، وتلك مسؤولية متفق عليها لوضع المصالح الوطنية فوق الجميع".
يدعو الأكاديمي الفلسطيني خليل جهشان إلى أن لا تنتقل الخلافات والانقسامات الفلسطينية إلى تلك الجاليات. وعليه تنتهج الجاليات في تشيلي أسلوبا يقول عنه مخلوف "العمل وفق الصوت الواحد، أي أن يكون لنا صوت موحد ومن خلال المؤسسات بحيث نتحمل جميعا مسؤولية الحفاظ على ما أنجز تاريخيا".
ويؤكد أنور مخلوف أن العمل بين فلسطينيي تشيلي يعتمد على الاحترام المتبادل "فنحن نحترم جهود سفارة فلسطين وننسق في بعض القضايا، لكن يبقى أساسيا أن كلا منا يعمل في مجاله، بحيث نبقي على مؤسسات الجالية أكثر استقلالا وبعيدا عن التجاذبات".

تشخيص وآمال..
من بين ما يشغل الشباب الفلسطيني في أميركا اللاتينية، إلى جانب مشاركاتهم بأنشطة دولية تشمل أيضا حركة المقاطعة، والتنسيق مع منظمات دولية مختلفة، حالة لا يتردد أنور مخلوف في تشخيصها كتحد يواجه مستقبل الجاليات في تلك القارة.
ينطلق الرجل العارف بمجتمعه التشيلي، ولادة ونشأة، وبالبيرو وبقية مجتمعات اللاتينية عملا واطلاعا ميدانيا بين الجاليات، من تاريخ وعراقة الجالية الفلسطينية في بلده. فيذكر "لا تنكر الكتب والأبحاث الرزينة هنا، وباعتراف رسمي في تشيلي، أن الفلسطينيين هم من ساهموا في نهضة الصناعة والاقتصاد الوطني، وانتشار الوعي وتفهم الوجود الفلسطيني عبر مراحل مختلفة من تاريخ البلد، بيد أننا نعيش واقعا يحتاج لجهود كبيرة، أولا وأخيرا الحفاظ على الهوية من أن لا تضيع ويبقى منها فقط الاسم". وفي ذلك يقول مخلوف "للأسف أنت أمام واقع جديد، أنا ارتدت مدرسة تشيلية-عربية، تعلم اللغة والثقافة العربيتين، وتشبعت بثقافتي من مجتمعي الفلسطيني والتشيلي، لكننا نواجه تحديا جديدا يتمثل بعزوف الفلسطينيين في اللاتينية عن الزواج من فلسطينيين، وبنسبة كبيرة جدا، هذا يؤدي إلى بقاء الاسم الفلسطيني واسم العائلة لكنه بنفس الوقت يضيّع على الجيل الجديد الاحتفاظ بالهوية، والهوية أساس لكل شيء آخر".
من الناحية الأخرى لدى المحامي مخلوف، إلى جانب هاجس ضياع الهوية، ومعه جيل شاب متعلم في اللاتينية، وبينهم نحو 40 ألفا في البيرو، قراءته في أسباب وصول فلسطينيي اللاتينية إلى تلك المكانة المرموقة، والتي يأملها أيضا لباقي المجتمعات الفلسطينية في المهاجر" فنحن نحتاج لأن نكون أفضل مواطنين في مجتمعاتنا، وبعضها صار فيها جيل ثالث ورابع منا، لكن بذات الوقت علينا الاجتهاد في مهمة الحفاظ على الهوية، ورغم ذلك تبقى المواطنة الجيدة هي مدخلا آخر للحفاظ على الهوية، بحيث لا يضطر الجيل الجديد للانصهار والتخلي عن هويته، فالتعلم والعمل والإبداع والبروز المؤسساتي في المجتمعات التي نقيم فيها تسهل على الجيل الجديد التعرف على جوانب أخرى يفتخر بها عن هويته وجذوره".
ويرى مخلوف  أيضا أن ذلك كله يجب أن يأتي بتراكمات "وهو ما نجمع عليه في كل أميركا اللاتينية، إذ يؤدي كل منا دوره حيث يكون، من الجامعة إلى السياسة إلى مكان العمل، بما يجعلنا قوة مؤثرة في مجتمعاتنا المحلية ولترسيخ الوعي بمن نكون".
ويراهن هذا الشباب الفلسطيني في أميركا اللاتينية على سرعة الاطلاع والتفاعل وزيادة اهتمام الأجيال الجديدة بجذورها وتعلم اللغة والثقافة والتقاليد الفلسطينية "فليس كل شيء يأتي بالعمل السياسي المباشر، وليس مطلوبا أصلا أن يكون عمل الجاليات كذلك، بل أولا وأخيرا إظهار وممارسة أفضل ما يمكن فينا في مجتمعاتنا لنكون حقا كما الأجداد والآباء في مثل هذه المجتمعات من مكانة وتأثير".
المساهمون