لا تهدف هذه المقالة إلى الادعاء باكتشاف العجلة من جديد، أو الخروج باكتشاف جديد في ما يخص الفلسطينيين في الداخل، وتبعات إعلان اتفاق المبادئ في أوسلو على ظروفهم ومكانتهم السياسية والقانونية في الداخل، بقدر ما هي محاولة لاستعراض محطات سابقة في حياة 130 ألف فلسطيني فقط وجدوا أنفسهم غداة النكبة بقية شعب، لا يشكلون أكثر من 11% تقريبا في دولة قامت على أنقاض شعبهم وفي وطنهم، ثم لاحقتهم الدولة الجديدة بمصادرة أراضيهم وفرض حكم عسكري عليهم دام 19 عاما، دون أي مرجعة وطنية جامعة لهم توجه حياتهم أو نضالاتهم. وكان على الفلسطينيين في الداخل وقد فقدوا غالبية شعبهم الذي صار لاجئا في المنافي العربية، أن يواجهوا بأعدادهم القليلة، وتوزعهم الجغرافي في الجليل والمثلث والنقب، صنوفا من الاضطهاد القومي والتمييز العنصري، ومخططات ترحيل وتطهير عرقي استمر بعد النكبة (تطهير النقب الغربي من القبائل البدوية وحشر عرب النقب في الشطر الشرقي من النقب وراء سياج شائك)، وتركيز سكان المدن التاريخية التي سقطت في حرب النكبة وخاصة (يافا واللد والرملة وحيفا وعكا)، في أحياء محدودة ووراء أسلاك شائكة، اعتاد اليهود أنفسهم في تلك السنوات الأولى على وصف أحياء العرب بالغيتوهات، فيما تم تطهير المدن الأخرى من العرب كليا، كما في صفد وطبريا وأسدود وبيسان وعسقلان.
وقد ظل الفلسطينيون في الداخل في العقدين الأولين بعد النكبة رهائن لنزوات السلطة الجديدة وممثلها الحاكم العسكري الذي تحكم بحياة الناس اليومية ومنعهم من التنقل من بيوتهم وقراهم ولو لأغراض العلاج أو الخروج للعمل بدون تصاريح رسمية، بعدما فقد الريف الفلسطيني هو الآخر أرضه الزراعية، ولم يبق في ملكيته أكثر من 3% من الأراضي التي ملكها قل النكبة.
على امتداد هذين العقدين، لم يجد الفلسطينيون في الداخل عنوانا ينظم حياتهم أو حزبا سياسيا يمثل طموحاتهم الوطنية دون أن يعلن اعترافه بالدولة الجديدة، وهو ما فسر سماح الدولة الجديدة بتنظيم سياسي وحيد تقريبا هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما منعت أي حركات وطنية من العمل، وسمح لقوائم مرتبطة بأحزاب السلطة بالعمل في أوساط الفلسطينيين.
وفي هذا السياق ومن هذا المنظور، منعت دولة الاحتلال حركة "الأرض" التي أسسها نشطاء ومثقفون من الصف الأول ممن تأثروا بالمد القومي العربي، ممثلا في تلك الفترة بالناصرية في مصر وحزب البعث في سورية والعراق، في إبريل/ نيسان من العام 1959، وكان على رأس هذه الحركة منصور كردوش وصبري جريس وحبيب قهوجي وصالح برانسي ومحمد ميعاري. ولم تكتف المحكمة الإسرائيلية العليا بتأكيد منع قائمة الأرض من خوض الانتخابات البرلمانية للكنيست، في العام 65، بل قامت بملاحقة مؤسسي الحركة ونفي بعض قياديها خارح الوطن، كما كان في حالة حبيب قهوجي وزوجته، ثم خروج صبري جريس إلى المنفى والتحاقه بمنظمة التحرير في المنفى. ومع حلول العام 1968 كانت دولة إسرائيل قد فككت عمليا الحركة وأوقفت نشاطها كليا.
لم تضع منظمة التحرير حتى بعد سيطرة الفصائل الفلسطينية بعد انطلاق الكفاح المسلح بانطلاق حركة فتح في الأول من يناير/ كانون الثاني 65، تصورا لدور فلسطينيي الداخل، وكانت المنظمة "منشغلة" في صراع تأكيد شرعيتها لتمثيل الشعب الفلسطيني والقرار المستقل. وحتى بعد صدور مقررات الرباط وتأكيد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، إلا أن العمل الفلسطيني المسلح لم يكن واردا في خيار أقلية فرضت عليها جنسية دولة الاحتلال وقيود أمنية شديدة، من جهة، فيما لم تكن فصائل الثورة قد وضعت خططا منهجية للعمل داخل أراضي 48، مع أنه منذ انطلاق الثورة الفلسطينية وحتى العام 1989 سجل النضال الفلسطيني انخراط وتشكيل نحو 20 خلية عسكرية لفصائل مختلفة، إلا أن تجنيد هذه الخلايا وعناصرها اعتمد على علاقات شخصية مع أعضاء في فصائل المنظمة أكثر مما كان سياسة موضوعة للمنظمة.
مع ذلك فإن سنوات السبعين شهدت نوعا من تكريس بقاء فلسطينيي الداخل ملفا خارجا عن التطلعات الوطنية، على الأقل في سياق الممارسة وليس التصريح، بالرغم من أن الداخل الفلسطيني كان قد شهد بعد اندثار حركة الأرض وظهور حركة وطنية جديدة خارجة عن السياق البرلماني، هي حركة أبناء البلد، التي بدأت طريقها كقائمة انتخابية محلية في مدينة أم الفحم، لكنها وخلال عقد من الزمن كانت قد تحولت إلى حركة قطرية، تماهت مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتأثرت بفكرها وخطها إلى اليوم، وكانت رافضة لأي مشاركة وانخراط في العمل الحزبي البرلماني المؤيد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، وظلت ترفع شعار الدولة الواحدة وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، فيما شهدت هذه السنوات بدء تشكيل وبناء الحركة الإسلامية التي ظلت خارج اللعبة البرلمانية حتى انقسامها عام 1992 إلى جنوبية مؤيدة للمشاركة البرلمانية برئاسة الشيخ الراحل عبد الله نمر درويش، وشمالية معارضة لذلك بقيادة رائد صلاح.
لكن يوم الأرض الذي انفجر في 30 آذار/ مارس 1976، وسقوط ستة شهداء في الجليل والمثلث ردا على مخططات مصادرة الأراضي، لفت أنظار العالم العربي ومنظمة التحرير بشكل أبرز إلى القوة الكامنة في الداخل الفلسطيني، وخاصة أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد بدأت حوارات مع قوى إسرائيلية في الداخل، كان يكفي اعترافها بحق تقرير المصير لتكون مؤهلة للقاء بها .
ومع أن يوم الأرض شكل نقطة تحول في مسيرة الفلسطينيين في الداخل في التعبير عن إرادة جماعية حمل أيضا في الخطاب السياسي المعلن تبني شعار الحل المرحلي والحديث عن المطالبة بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل كحل دائم، وظل هذا الشعار بمثابة "المعادلة السحرية" التي توازي بين الموقف من الحق في تقرير المصير والهوية الفلسطينية، من جهة، وبين "محاذير القانون الإسرائيلي" وطرح موقف "معتدل"، وخاصة أنه تماشى مع المواقف المعلنة لمنظمة التحرير الفلسطينية في تلك الفترة، واتجاه منظمة التحرير أكثر فأكثر إلى النظر إلى فلسطينيي الداخل ودورهم من باب دعم قوى اليسار الإسرائيلي للوصول إلى الحكم لا غير، مقابل الاكتفاء بالتأكيد على شعارات رومانسية حول الصمود والبقاء في الوطن.
عزز هذا التوجه من القيادة الفلسطينية عموما، وإن لم يكن مقبولا عند كل الفصائل، خاصة الجبهة الشعبية، من قوة التيارات السياسية التي ظهرت في الداخل، مثل الحزب الديمقراطي العربي بقيادة الناب السابق عبد الوهاب دراوشة، وقوة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ولاحقا الحركة الإسلامية الجنوبية بعد انقسام الحركة الإسلامية الأم، في تبني الموقف الفلسطيني العام، والاكتفاء بحدود القبول بما تقبل به القيادة الفلسطينية، من جهة، والميل نحو "الأسرلة" كسقف نهائي لمصير الفلسطينيين في الداخل من جهة أخرى.
كرس اتفاق أوسلو هذا التوجه، لكنه أثار في الداخل، خصوصا بعد فشل القائمة التقدمية في الانتخابات النيابية العامة عام 1992، قلقا في أوساط وطنية في الداخل، كانت ترفض هذا التوجه وتخشى من تبعات أوسلو في تحويل فلسطينيي الداخل إلى ملف إسرائيلي داخلي لا غير.
وقد انقسم الفلسطينيون في الداخل كباقي تجمعات الشعب الفلسطيني، في مواقفهم من اتفاق أوسلو، ففيما أيده تيار "حل الدولتين": الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الديمقراطي العربي والحركة الإسلامية الجنوبية الممثلة في الكنيست، في المقابل عارضت الاتفاق حركات أخرى اعتبرت أنه مشروع يقود إلى التراجع عن مكتسبات المرحلة السابقة، كما كان موقف حركة أبناء البلد. وعارضته الحركة الإسلامية الشمالية، وأوساط ثقافية ووطنية كانت قد ظهرت عشية اتفاق أوسلو، مثل حركة ميثاق المساواة، التي كان قد أسسها المفكر العربي عزمي بشارة بالاشتراك مع نشطاء في الحركة الوطنية عام 1991. وعارضه أيضا نشطاء وأعضاء القائمة التقدمية التي فشلت في اجتياز الانتخابات النيابية عام 1992.
دفع اتفاق أوسلو هذه المجموعات، باستثناء الحركة الإسلامية الشمالية (بقيادة رائد صلاح)، إلى محاولة بلورة مشروع فلسطيني جديد، يؤكد الحقوق المشروعة والوطنية للفلسطينيين في الداخل، ورفض اعتبارهم مجرد "ملف إسرائيلي داخلي". وتمخضت الاتصالات المختلفة بين هذه المجموعات عن تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وانتخاب المفكر العربي عزمي بشارة لقيادته وتمثيله مندوبا عن الحزب في الكنيست. أبدى التجمع موقفا مغايرا لمواقف باقي الحركات البرلمانية المذكورة لجهة عدم القبول تلقائيا بكل ما تقوله القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، من جهة، ووضع تصور ومشروع لمستقبل فلسطينيي الداخل، تحت مشروع "دولة جميع مواطنيها"، الذي يضمن مسألة تفكيك البعد الصهيوني والعنصري للدولة في تعاملها مع السكان الفلسطينيين في الداخل، وتكريس الهوية القومية والوطنية إلى جانب الحقوق الجماعية والحقوق المدنية للفلسطينيين في الداخل، مع إبراز البعد القومي أيضا، من جهة أخرى.
وبالرغم من الدور الذي لعبه التجمع الوطني في هذا السياق، إلا أن مفاعيل أوسلو، والتطورات اللاحقة حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، كانت قد عززت لدى دولة الاحتلال ولدى أوساط في السلطة الفلسطينية، مسألة إبقاء الفلسطينيين في الداخل "شأنا إسرائيليا"، وهو ما تجلى لاحقا في تشريع مزيد من القوانين العنصرية ضدهم، مثل قوانين لجان القبول التي تتيح منع الفلسطينيين في الداخل من السكن في بلدات يهودية "أهلية". وتفاقم التعامل العدائي معهم من قبل الشرطة (كما عكسته أحداث هبة القدس والأقصى في الداخل عام 2000، حيث قتلت الشرطة الإسرائيلية 13 شابا خلال المظاهرات الاحتجاجية على اقتحام شارون للمسجد الأقصى)، واعتبارهم أعداء يشكلون خطرا ديموغرافيا، وفق توصيات مؤتمر المناعة القومي الأول في هرتسليا عام 2000، بعد شهرين من هبة القدس والأقصى.
وقد شهد الداخل الفلسطيني بعد هبة القدس والأقصى، وإتهام لجنة التحقيق الرسمية بقيادة القاضي ثيودور أور، ثلاثة من القادة الفلسطينيين في الداخل: رائد صلاح وعزمي بشارة، والنائب السابق عن الحركة الإسلامية الجنوبية عبد المالك دهامشة، بالمسؤولية عن تأجيج وإلهاب الخواطر في الداخل، تحولا جديدا إضافيا لجهة اتجاه الدولة والسلطات لملاحقة التيارين الرئيسيين المعارضين لخط أوسلو وتوجهات الأسرلة، وهما التجمع الوطني الديمقراطي ورئيسه عزمي بشارة، الذي اضطر للخروج للمنفى القسري عام 2007 بعد بدء السلطات الإسرائيلية بتلفيق ملفات أمنية له على خلفية إصراره على حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بمقاومة الاحتلال، وخاصة خلال العدوان الإسرائيلي الثاني على لبنان في يوليو/ تموز 2006، والحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح، وصولا إلى منع الحركة وإخراجها عن القانون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، واستمرار ملاحقة الشيخ رائد صلاح على خلفية نشاطه في مواجهة مشاريع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى. كما استمرت بموازاة ذلك ملاحقة أعضاء وكوادر في حركة أبناء البلد وفرض القيود على نشاطهم السياسي، وصولا إلى سن قانون القومية عام 2017 الذي حدد تعريف إسرائيل وأرض فلسطين كلها بأنها الوطن القومي للشعب اليهودي، وأن حق تقرير المصير فيها محصور فقط بالشعب اليهودي، وهو ما أعاد عمليا، ربما بمفارقة تاريخية، ربط مصير فلسطينيي الداخل مجددا من حيث المحصلة النهائية في المنظور الصهيوني بمصير الشعب الفلسطيني في منظومة أبرتهايد واحدة، وإن تفاوتت شروط ومستوى معيشة الفلسطينيين بين منطقة وأخرى، بين من يعيشون في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وبين من ظنوا أنهم "مواطنون متساوون في الحقوق" وإن حملوا الجنسية الإسرائيلية رسمياً.
وقد ظل الفلسطينيون في الداخل في العقدين الأولين بعد النكبة رهائن لنزوات السلطة الجديدة وممثلها الحاكم العسكري الذي تحكم بحياة الناس اليومية ومنعهم من التنقل من بيوتهم وقراهم ولو لأغراض العلاج أو الخروج للعمل بدون تصاريح رسمية، بعدما فقد الريف الفلسطيني هو الآخر أرضه الزراعية، ولم يبق في ملكيته أكثر من 3% من الأراضي التي ملكها قل النكبة.
على امتداد هذين العقدين، لم يجد الفلسطينيون في الداخل عنوانا ينظم حياتهم أو حزبا سياسيا يمثل طموحاتهم الوطنية دون أن يعلن اعترافه بالدولة الجديدة، وهو ما فسر سماح الدولة الجديدة بتنظيم سياسي وحيد تقريبا هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما منعت أي حركات وطنية من العمل، وسمح لقوائم مرتبطة بأحزاب السلطة بالعمل في أوساط الفلسطينيين.
وفي هذا السياق ومن هذا المنظور، منعت دولة الاحتلال حركة "الأرض" التي أسسها نشطاء ومثقفون من الصف الأول ممن تأثروا بالمد القومي العربي، ممثلا في تلك الفترة بالناصرية في مصر وحزب البعث في سورية والعراق، في إبريل/ نيسان من العام 1959، وكان على رأس هذه الحركة منصور كردوش وصبري جريس وحبيب قهوجي وصالح برانسي ومحمد ميعاري. ولم تكتف المحكمة الإسرائيلية العليا بتأكيد منع قائمة الأرض من خوض الانتخابات البرلمانية للكنيست، في العام 65، بل قامت بملاحقة مؤسسي الحركة ونفي بعض قياديها خارح الوطن، كما كان في حالة حبيب قهوجي وزوجته، ثم خروج صبري جريس إلى المنفى والتحاقه بمنظمة التحرير في المنفى. ومع حلول العام 1968 كانت دولة إسرائيل قد فككت عمليا الحركة وأوقفت نشاطها كليا.
لم تضع منظمة التحرير حتى بعد سيطرة الفصائل الفلسطينية بعد انطلاق الكفاح المسلح بانطلاق حركة فتح في الأول من يناير/ كانون الثاني 65، تصورا لدور فلسطينيي الداخل، وكانت المنظمة "منشغلة" في صراع تأكيد شرعيتها لتمثيل الشعب الفلسطيني والقرار المستقل. وحتى بعد صدور مقررات الرباط وتأكيد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، إلا أن العمل الفلسطيني المسلح لم يكن واردا في خيار أقلية فرضت عليها جنسية دولة الاحتلال وقيود أمنية شديدة، من جهة، فيما لم تكن فصائل الثورة قد وضعت خططا منهجية للعمل داخل أراضي 48، مع أنه منذ انطلاق الثورة الفلسطينية وحتى العام 1989 سجل النضال الفلسطيني انخراط وتشكيل نحو 20 خلية عسكرية لفصائل مختلفة، إلا أن تجنيد هذه الخلايا وعناصرها اعتمد على علاقات شخصية مع أعضاء في فصائل المنظمة أكثر مما كان سياسة موضوعة للمنظمة.
مع ذلك فإن سنوات السبعين شهدت نوعا من تكريس بقاء فلسطينيي الداخل ملفا خارجا عن التطلعات الوطنية، على الأقل في سياق الممارسة وليس التصريح، بالرغم من أن الداخل الفلسطيني كان قد شهد بعد اندثار حركة الأرض وظهور حركة وطنية جديدة خارجة عن السياق البرلماني، هي حركة أبناء البلد، التي بدأت طريقها كقائمة انتخابية محلية في مدينة أم الفحم، لكنها وخلال عقد من الزمن كانت قد تحولت إلى حركة قطرية، تماهت مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتأثرت بفكرها وخطها إلى اليوم، وكانت رافضة لأي مشاركة وانخراط في العمل الحزبي البرلماني المؤيد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، وظلت ترفع شعار الدولة الواحدة وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، فيما شهدت هذه السنوات بدء تشكيل وبناء الحركة الإسلامية التي ظلت خارج اللعبة البرلمانية حتى انقسامها عام 1992 إلى جنوبية مؤيدة للمشاركة البرلمانية برئاسة الشيخ الراحل عبد الله نمر درويش، وشمالية معارضة لذلك بقيادة رائد صلاح.
لكن يوم الأرض الذي انفجر في 30 آذار/ مارس 1976، وسقوط ستة شهداء في الجليل والمثلث ردا على مخططات مصادرة الأراضي، لفت أنظار العالم العربي ومنظمة التحرير بشكل أبرز إلى القوة الكامنة في الداخل الفلسطيني، وخاصة أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد بدأت حوارات مع قوى إسرائيلية في الداخل، كان يكفي اعترافها بحق تقرير المصير لتكون مؤهلة للقاء بها .
ومع أن يوم الأرض شكل نقطة تحول في مسيرة الفلسطينيين في الداخل في التعبير عن إرادة جماعية حمل أيضا في الخطاب السياسي المعلن تبني شعار الحل المرحلي والحديث عن المطالبة بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل كحل دائم، وظل هذا الشعار بمثابة "المعادلة السحرية" التي توازي بين الموقف من الحق في تقرير المصير والهوية الفلسطينية، من جهة، وبين "محاذير القانون الإسرائيلي" وطرح موقف "معتدل"، وخاصة أنه تماشى مع المواقف المعلنة لمنظمة التحرير الفلسطينية في تلك الفترة، واتجاه منظمة التحرير أكثر فأكثر إلى النظر إلى فلسطينيي الداخل ودورهم من باب دعم قوى اليسار الإسرائيلي للوصول إلى الحكم لا غير، مقابل الاكتفاء بالتأكيد على شعارات رومانسية حول الصمود والبقاء في الوطن.
عزز هذا التوجه من القيادة الفلسطينية عموما، وإن لم يكن مقبولا عند كل الفصائل، خاصة الجبهة الشعبية، من قوة التيارات السياسية التي ظهرت في الداخل، مثل الحزب الديمقراطي العربي بقيادة الناب السابق عبد الوهاب دراوشة، وقوة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ولاحقا الحركة الإسلامية الجنوبية بعد انقسام الحركة الإسلامية الأم، في تبني الموقف الفلسطيني العام، والاكتفاء بحدود القبول بما تقبل به القيادة الفلسطينية، من جهة، والميل نحو "الأسرلة" كسقف نهائي لمصير الفلسطينيين في الداخل من جهة أخرى.
كرس اتفاق أوسلو هذا التوجه، لكنه أثار في الداخل، خصوصا بعد فشل القائمة التقدمية في الانتخابات النيابية العامة عام 1992، قلقا في أوساط وطنية في الداخل، كانت ترفض هذا التوجه وتخشى من تبعات أوسلو في تحويل فلسطينيي الداخل إلى ملف إسرائيلي داخلي لا غير.
وقد انقسم الفلسطينيون في الداخل كباقي تجمعات الشعب الفلسطيني، في مواقفهم من اتفاق أوسلو، ففيما أيده تيار "حل الدولتين": الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الديمقراطي العربي والحركة الإسلامية الجنوبية الممثلة في الكنيست، في المقابل عارضت الاتفاق حركات أخرى اعتبرت أنه مشروع يقود إلى التراجع عن مكتسبات المرحلة السابقة، كما كان موقف حركة أبناء البلد. وعارضته الحركة الإسلامية الشمالية، وأوساط ثقافية ووطنية كانت قد ظهرت عشية اتفاق أوسلو، مثل حركة ميثاق المساواة، التي كان قد أسسها المفكر العربي عزمي بشارة بالاشتراك مع نشطاء في الحركة الوطنية عام 1991. وعارضه أيضا نشطاء وأعضاء القائمة التقدمية التي فشلت في اجتياز الانتخابات النيابية عام 1992.
دفع اتفاق أوسلو هذه المجموعات، باستثناء الحركة الإسلامية الشمالية (بقيادة رائد صلاح)، إلى محاولة بلورة مشروع فلسطيني جديد، يؤكد الحقوق المشروعة والوطنية للفلسطينيين في الداخل، ورفض اعتبارهم مجرد "ملف إسرائيلي داخلي". وتمخضت الاتصالات المختلفة بين هذه المجموعات عن تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وانتخاب المفكر العربي عزمي بشارة لقيادته وتمثيله مندوبا عن الحزب في الكنيست. أبدى التجمع موقفا مغايرا لمواقف باقي الحركات البرلمانية المذكورة لجهة عدم القبول تلقائيا بكل ما تقوله القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، من جهة، ووضع تصور ومشروع لمستقبل فلسطينيي الداخل، تحت مشروع "دولة جميع مواطنيها"، الذي يضمن مسألة تفكيك البعد الصهيوني والعنصري للدولة في تعاملها مع السكان الفلسطينيين في الداخل، وتكريس الهوية القومية والوطنية إلى جانب الحقوق الجماعية والحقوق المدنية للفلسطينيين في الداخل، مع إبراز البعد القومي أيضا، من جهة أخرى.
وبالرغم من الدور الذي لعبه التجمع الوطني في هذا السياق، إلا أن مفاعيل أوسلو، والتطورات اللاحقة حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، كانت قد عززت لدى دولة الاحتلال ولدى أوساط في السلطة الفلسطينية، مسألة إبقاء الفلسطينيين في الداخل "شأنا إسرائيليا"، وهو ما تجلى لاحقا في تشريع مزيد من القوانين العنصرية ضدهم، مثل قوانين لجان القبول التي تتيح منع الفلسطينيين في الداخل من السكن في بلدات يهودية "أهلية". وتفاقم التعامل العدائي معهم من قبل الشرطة (كما عكسته أحداث هبة القدس والأقصى في الداخل عام 2000، حيث قتلت الشرطة الإسرائيلية 13 شابا خلال المظاهرات الاحتجاجية على اقتحام شارون للمسجد الأقصى)، واعتبارهم أعداء يشكلون خطرا ديموغرافيا، وفق توصيات مؤتمر المناعة القومي الأول في هرتسليا عام 2000، بعد شهرين من هبة القدس والأقصى.
وقد شهد الداخل الفلسطيني بعد هبة القدس والأقصى، وإتهام لجنة التحقيق الرسمية بقيادة القاضي ثيودور أور، ثلاثة من القادة الفلسطينيين في الداخل: رائد صلاح وعزمي بشارة، والنائب السابق عن الحركة الإسلامية الجنوبية عبد المالك دهامشة، بالمسؤولية عن تأجيج وإلهاب الخواطر في الداخل، تحولا جديدا إضافيا لجهة اتجاه الدولة والسلطات لملاحقة التيارين الرئيسيين المعارضين لخط أوسلو وتوجهات الأسرلة، وهما التجمع الوطني الديمقراطي ورئيسه عزمي بشارة، الذي اضطر للخروج للمنفى القسري عام 2007 بعد بدء السلطات الإسرائيلية بتلفيق ملفات أمنية له على خلفية إصراره على حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بمقاومة الاحتلال، وخاصة خلال العدوان الإسرائيلي الثاني على لبنان في يوليو/ تموز 2006، والحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح، وصولا إلى منع الحركة وإخراجها عن القانون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، واستمرار ملاحقة الشيخ رائد صلاح على خلفية نشاطه في مواجهة مشاريع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى. كما استمرت بموازاة ذلك ملاحقة أعضاء وكوادر في حركة أبناء البلد وفرض القيود على نشاطهم السياسي، وصولا إلى سن قانون القومية عام 2017 الذي حدد تعريف إسرائيل وأرض فلسطين كلها بأنها الوطن القومي للشعب اليهودي، وأن حق تقرير المصير فيها محصور فقط بالشعب اليهودي، وهو ما أعاد عمليا، ربما بمفارقة تاريخية، ربط مصير فلسطينيي الداخل مجددا من حيث المحصلة النهائية في المنظور الصهيوني بمصير الشعب الفلسطيني في منظومة أبرتهايد واحدة، وإن تفاوتت شروط ومستوى معيشة الفلسطينيين بين منطقة وأخرى، بين من يعيشون في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وبين من ظنوا أنهم "مواطنون متساوون في الحقوق" وإن حملوا الجنسية الإسرائيلية رسمياً.