فريدريك شوبان: الحياة في صالة مُغلقة يتوسّطها بيانو

23 أكتوبر 2018
كان شوبان أقرب إلى الكتّاب منه إلى الموسيقيين (Getty)
+ الخط -
كثيراً ما كرّر المؤلّف والملحّن الموسيقي فريدريك شوبان (1810 - 1849)، في أحاديثه ورسائله، أنه لا يستطيع التعبير عن عواطفه، وأنه إن فعل فسيكون ذلك بالموسيقى فقط. في رسالة تهنئة لأبيه بمناسبة "يوم الاسم" البولندي، يقول: "أستطيع التّعبير عن مشاعري بطريقة أسهل لو كنت أكتبها بنوتة موسيقيّة". وهذا ما قام به دوماً، على الرغم من الانعطافات الكبيرة في حياته، والتي ابتدأت فعلياً بعد هجرته أو بقائه خارج بولندا بعد سن العشرين، إثر ثورة 1830 ضد حكم الإمبراطورية الروسية لبلاده.

على الرغم من أنه استطاع أن يحيط نفسه بالكثير من الفنانين والكتّاب والموسيقيين، إلا أن شوبان لم يمتلك العديد من الأصدقاء، ولم يتحدث كثيراً عن الموسيقى، وإن كنا نملك مئات الرسائل لشوبان التي تحتوي تفاصيل يومية بطلبات قمصان، وقفازات، ونبيذ جيد، وغيرها من الأشياء غير الهامة والمعايدات الباردة، إلا أن شوبان كان حذراً عند تحدّثه عن الأمور التي تمسّه من الداخل على الرغم من تعددها، إثر مرضه ومعاناته ببقائه خارج بلاده في ذلك الوقت المتأزم، وإن تحدث عن أي شيء من ذلك مزجه بالفكاهة. وسواء كان هذا الأمر متعمداً أم لا، فإن خصوصية منح شوبان كوامنه وتقلباتها للبيانو أكسبته شاعريّة عالية غير مجانية، غير مستهلكة، وصادقة؛ استطاعت في ذات الوقت ترسيخه كهرم رئيس للبيانو. لقد كان ضعيفاً جسدياً ونفسياً، لكنه كان طاغياً بحساسيّته مع البيانو، وكلما مرت الأعوام اكتشفنا كم كان متجاوزاً لأبناء جيله.
لطالما هُوجم شوبان بأنه لا يقدم أعماله للجمهور بل في صالات وجلسات مغلقة، يُعزى لخوفه من الجموع ونزوعه إلى أن يكون محاطاً بأقل عدد ممكن من الناس، وحتى آلات موسيقية! لقد منح كامل عوالمه الداخلية للبيانو، ونأى بنفسه عن التظاهرات الموسيقية الضخمة. في كتابه "عن الموسيقى والموسيقيين"، يقول غزوان الزركلي: "... ففي رده على أصوات متعددة كانت تطلب منه باستمرار التأليف ليس فقط للبيانو وإنما للأوركسترا والأوبرا ولمجموعات موسيقى الحجرة، كتب شوبان في إحدى رسائله: أعرف حدودي، وأعرف أنني سأجعل من نفسي أضحوكة إن حاولت التسلق إلى الأعلى من دون أن تكون لديّ إمكانية لذلك. يعذبونني حتى الموت وهم يلحّون عليَّ لكتابة سيمفونيات وأوبرا، ويريدون مني أن أكون كلّ شيء في شخص واحد: روسي وبولوني، موتسارت وبيتهوفن. أضحك بيني وبين نفسي وأفكّر أنه على الإنسان أن يبدأ بأشياء صغيرة. أنا مجرد عازف بيانو، وإذا كنت أكثر من ذلك فهذا جيّد أيضاً... أعتقد أنّ من الأفضل أن يقدم المرء القليل بأفضل ما عنده، من أن يحاول القيام بكل شيء ولكن بطريقة رديئة".
هذه العوالم المتداخلة في موسيقاه والطافحة بشاعريتها، جعلت من شوبان أقرب الموسيقيين إلى الكتّاب، خاصة الشعراء منهم. ومن المثير للاهتمام أنه رغم مئات الرسائل التي خلّفها شوبان، نجد كتّاباً آخرين كتبوا رسائل متخيلة منه وإليه، كالشاعرة تامي تيلوتسون التي كتبت ثلاث رسائل متخيّلة من وإلى شوبان، وقالت خلال مقابلة معها إنها تفهم موسيقى شوبان وإنها مثل الكتابة بالنسبة لها. لم يقف الأمر عند الرسائل، بل إن هناك بعض الشعراء، مثل مارتن ويليتس الابن، الذي كتب قصائد متخيلة منه وإليه، مع الكاتبة جورج صاند التي كان على علاقة معها في سنواته الأخيرة، وكان هجرها له أحد مسببات تدهور حالته الصحية ووفاته.
وأبعد من ذلك، كانت هناك محاولات لإعادة تشكيل موسيقاه كنصوص تحاكي انعكاسات تلك الموسيقى. في كتابه "روح الموسيقى"، يتحدّث سمير الحاج شاهين عن ليليّات شوبان. ففي مقدمة حديثه عن Nocturne Op.55 No.1:
"الدهشة التي تلازم مسافراً يضع رجليه على تربة غريبة، ويحط الرحال على شاطئ مجهول، وهذا العالم المسحور ما هو؟ إنه الليل! حيث نطرح كل الحقائب والأمتعة التي جئنا بها من دنيا الواقع".
لقد أراد العديد من الكتاب والفنانين إعادة خلق الحساسية العالية لدى شوبان بطرقهم، إلا أن شوبان وعلى الرغم من أنه لم يستطع أن يفعل ذلك تعبيراً أو كتابةً، قدّم ما هو أهم من ذلك بمراحل، بقدرته على سرد كل ما يريده من خلال البيانو، حيث يمكن لأي شخص أن يشعر بها ويقرأها بمستويات مختلفة وأبعاد عديدة بعيدة عن تجديد الموروث الموسيقي وتتجه إلى إعادة إنتاج ذاته، وقد يكون هذا المنحى سبباً أو نتيجةً لابتعاده أو عدم اكتراثه بالكثير من الموسيقيين والفنانين، بل وحتى بالأدب والأدباء؛ إذ تذكر هدى أنتيبا في مقال لها عن جورج صاند إجماع مجموعة من النقاد، من بينهم "ايسير"، على أنّ شوبان لم يهتم بالأدب إلا بعد تعلّقه بصاند.
إنّ علاقة غريبة غير متبادلة ما بين انعكاسات موسيقى شوبان وأعماله على عالم الكتابة عموماً والشعر خصوصاً إضافة إلى استخدام شوبان أدوات الشعر ومزاجيته من ذاتية وخصوصية وتكثيف والكشف في التفاصيل بإعادة خلق الحالة الشعورية فيها. وتطرف شوبان في هذا الأمر بعدم التفاته إلى تلك الفنون، لكنه استطاع تخصيب هذه الذاتية في البيانو ليورثها مع مقطوعاته، يقول دانييل بارينبويم (قائد أوركسترا وعازف بيانو): "عندما تعزف لشوبان تصبح لديك علاقة حميمة مع البيانو، هذه الآلة التي يصعب أن تكون لك معها علاقة فيزيائية كالآلات الأخرى".
يمكن النظر إلى أن علاقة شوبان بالبيانو هي الزواج الأمثل والوحيد الذي حظي به الفنان، فرغم تعلّمه الموسيقى في بداية حياته، إلا أنه من اللافت أن أحداً من أساتذته لم يكن مختصّاً في البيانو، فقد أخذ منهم ما استطاعوا منحه إياه وأكمل هو علاقته الخاصة بالبيانو. ومع مرضه المزمن والذي كان المانع الرئيس من زواجه من حبيبته البولندية الثانية، إلا أنه يمكن وضع حساسية علاقته بالبيانو كفرضيّة أكثر منطقيّة لبقائه أعزب.
دلالات
المساهمون