فرنسا ومكافحة الإرهاب.. مقاربات متعدّدة

12 يناير 2015

رئيس الوزراء الفرنسي مع قوات فرنسية بتشاد (نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
في تغيّر ملحوظ، تصدّر شعار "مكافحة الإرهاب" أولويات السياسة الخارجيّة الفرنسيّة، في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ قادت فرنسا في عام 2013 تدخلاً عسكريّاً دولياً في مالي وأفريقيا الوسطى، بعد قرارات في مجلس الأمن تحت الفصل السابع، أجازته وشرعنته. وبعيداً عن تبريرات باريس وحججها (إعلان إمارة إسلامية شمال مالي، الفوضى والحرب الأهليّة في أفريقيا الوسطى)، فإن عوامل أخرى أكثر أهمية فسّرت الانغماس والاندفاع الفرنسي، لتجديد تدخلها العسكري في أفريقيا. كانت مصالح فرنسا الاقتصاديّة حاضرة في تعاملها مع أزمة مالي، فسيطرة جماعات راديكاليّة على هذا البلد، أو جزء حيوي منه، شكل تهديداً مباشراً لاستثماراتها في دول جوار مالي، كالنيجر والسنغال وبوركينا فاسو، وساحل العاج. وتمثل العامل الأكثر أهميّة في استعادة فرنسا نفوذها في مجالها الحيوي "الاستعماري"، بعد انحسار سببه اندفاع الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن للاستثمارين، الاقتصادي والأمني، في القارة السمراء بهدف تنويع مصادر الطاقة، وإقامة قواعد عسكريّة وقوة تدخل سريع لمكافحة الإرهاب، والقرصنة، وحماية الممرات البحرية.
عدا عن ذلك، أرّق الحضور الصينيّ المتنامي، وخصوصاً في المجال الاقتصادي والاستثماري، صانع القرار الفرنسيّ طوال العقد المنصرم، إذ عجزت الشركات الفرنسية الكبرى عن منافسة مثيلاتها الصينية التي تقدم قروضاً ومنحاً للبلدان الأفريقية، لمساعدتها على استثمار ثرواتها، بما يحقق منفعة متبادلة للطرفين، بعد أن كانت الشركات الفرنسية تتعامل مع بلدان أفريقيا مصدراً للمواد الخام، وسوقاً للتصريف. تأسيساً على ما سبق، وجدت باريس في استراتيجية الانكفاء الأميركيّة في عهد باراك أوباما فرصة سانحةً لتعويض ما خسرته زمن بوش، وانطلقت في سياسة هجومية تدخليّة في أفريقيا، ووظفت "مكافحة الإرهاب" وقرارات مجلس الأمن الدولي لإعادة إحياء نفوذها، واستغلال حاجة الأنظمة الأفريقية لإرساء الأمن والاستقرار وضمان بقائها، بهدف إنعاش اقتصادها، عبر صفقات استثمارية طويلة الأمد. وفي هذا السياق، شرعت فرنسا ببناء قاعدة عسكريّة كبيرة، "ماداما"، في شمال النيجر على بعد 100 كلم من الحدود الليبية الجنوبية، وقرب طريق رئيسي للتهريب إلى النيجر ومالي.
لطالما كان الحضور الفاعل في أفريقيا أولويّة للحكومات الفرنسية على اختلاف تصنيفاتها (يمينية أو يساريّة)، إذ لم تتوانَ لحظة عن استغلال كل الفرص المتاحة لتعزيز هذا الحضور وتفعيله، تحت عناوين مختلفة، وإزاحة كل العوائق التي تعترضه. ولم يقتصر ذلك على مستعمراتها السابقة فقط، بل في كل الساحات المهمة جيوسياسياً. ولعلّ الثورة الليبية تعد أكثر الأمثلة "الشارحة" هذا التدخل. فعلى الرغم من تحسن علاقاتها مع نظام القذافي ما قبل الثورة، اتخذت باريس موقفاً متقدماً ضده، ولعبت دوراً محورياً تعدى المشاركة في التحالف الدولي إلى تزويد المعارضة الليبية وتسليحها، ومساعدتها على حسم المعركة الأخيرة في طرابلس. ولم
يكن من تفسير مصلحي وواقعي، خارج عناوين حماية المدنيين ودعم الثورة، للانقلاب الفرنسي على القذافيّ المتصالح معها (نشر أنه موّل الحملة الانتخابية للرئيس السابق نيكولا ساركوزي)، إلا بالتخلص من الإرباك الذي سببه القذافي للسياسة الفرنسية في أفريقيا، عبر مشاريع ومنح ومساعدات قدمها لأنظمة ودول فقيرة، للحد من اعتمادها على فرنسا، ولتنصيبه ملكاً لملوك أفريقيا. آنذاك، حصل التدخل الفرنسي تحت شعار حماية المدنيين، واستناداً لقرار جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي. لكن شعار مكافحة الإرهاب عاد ليتصدّر خطاب الدبلوماسية الفرنسية، في التعامل مع الأزمة الليبية وأزمات أخرى، إذ اصطفت إلى جانب طرف بعينه في ليبيا، وساندت قوى سياسيّة "علمانيّة" في تونس ضد قوى الإسلام السياسي وحركات متحالفة، أو متصالحة، معها، كما كانت أولى الدول الأوروبية التي دعمت الانقلاب في مصر ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي.
وبخلاف أفريقيا، تبنّت فرنسا مقاربة مختلفة للإرهاب والحركات الجهاديّة الفاعلة في المشرق العربي، فرضتها ظروف المنطقة الملتهبة، ومحددات المصلحة الوطنية الفرنسيّة. غداة انطلاق الثورة السوريّة، ترددت الولايات المتحدة والدول الغربية في اتخاذ مواقف تصعيديّة ضد النظام السوري، وراهنت، بداية، على من كانت تعتبره "رئيساً إصلاحياً"، ليستجيب للمطالب الشعبية وينهي الأزمة السياسية. سارت فرنسا على هدي الغرب في أول شهرين من عمر الثورة السوريّة، لكنها تمايزت عنه، وعن الجميع أيضاً، مطلع مايو/ أيار 2011، بسلسلة تصريحات تصعيدية ضد الأسد، تحدثت عن جرائمه وفقدانه الشرعية. نظرت فرنسا للثورة السوريّة مدخلاً لإعادة تعزيز حضورها في المشرق العربي عامة، بعد أن ساهمت تفاهمات الأسد مع القوى الإقليمية والدولية في تحييد دورها وتحجيمه في ساحات عدة، أبرزها لبنان. لكن فرنسا كانت تدرك التشابك الجيوستراتيجي في سورية، فانضمت إلى المساعي الجماعية (المبادرات العربية الدولية، جنيف 2) لحل الأزمة، وإحداث التغيير في سوريّة. وبخلاف سياساتها في دول ومناطق أخرى، سعت فرنسا ما أمكن لمنع الأسد من استثمار تنامي نفوذ الحركات الجهادية في سورية، لإعادة تأهيل نفسه طرفاً مقبولاً دولياً. ولتحقيق ذلك، احتضنت باريس، في 12 يناير/ كانون الثاني 2014، مؤتمراً لمجموعة أصدقاء سورية، قبل انطلاق مؤتمر جنيف 2، وضغطت مع دول أخرى، كالسعودية وقطر وتركيا، ليؤكد بيانه الختامي على أن "النظام السوري هو الذي يغذي الإرهاب، ويجب أن ينتهي هذا النظام، حتى نتخلص من الإرهاب".
بعد صعود تنظيم الدولة وسيطرته، منتصف عام 2014، على مساحات واسعة في العراق وسورية، تغيّرت أولويات الغرب في المنطقة، ووضع "مكافحة الإرهاب" ومواجهة الحركات الجهادية السنية على رأس الأولويات والاهتمامات الراهنة، وأعلن عن تحالف دولي بدأ ضرباته الجوية ضد داعش وجبهة النصرة ومجموعات أخرى، وتراجع الحديث عن إسقاط الأسد، أو الحل السياسيّ في سورية، أو تحقيق العدالة والمساواة في العراق ومعالجة جذور المشكلات الراهنة. لكن فرنسا، مع بعض الدول، كقطر وتركيا، رفضت المقاربة الأميركية الراهنة لمكافحة الإرهاب، داعية إلى التركيز على لب المشكلة، "الاستبداد"، وليس النتائج. وعلى الرغم من احتضانها مؤتمراً للتحالف الدولي، في 14 سبتمبر/ أيلول 2014، فإن باريس رفضت المشاركة في قصف داعش ضمن الأراضي السوريّة، مخافة أن يستفيد نظام الأسد من ضربات التحالف، ورهنت دورها في العراق بتقدم العملية السياسية، لإنهاء جذور الأزمة القائمة.
أخيراً، استهدف الإرهاب المدان قلب باريس، وفتح الباب لنقاشات محتدمة، وآراء متنوعة داخل فرنسا وخارجها عن كيفية وطريقة مكافحته. وللأسف، تضمنت النقاشات القائمة طروحات عنصريّة، "ماهت" بين الإسلام والإرهاب، وأخرى مستفزة دعت الحكومة الفرنسية، والحكومات الغربية عامة، للتحالف مع الديكتاتوريات العربية والإسلامية، كونها تجيد التعامل مع شعوب "متطرفة" بطبيعتها. تبنت فرنسا ودول أخرى مقاربات مختلفة للإرهاب، ومايزت بين أشكاله وطريقة التعامل معه، وفقاً لما تمليه مصالحها الوطنية، الأمر الذي خلق، ولا يزال، سوء تقدير لهذه الظاهرة العالمية العابرة للحدود، والأديان أيضاً. لذلك، سيبقى التركيز على المعالجة الأمنية البحتة، من دون إعادة النظر في السياسات المتبعة وفي جذور المشكلة، معالجة ناقصة، تساهم في احتواء الأزمات، أو تأجيل تفاقمها، وليس حلها.
(كاتب وباحث سوري)
حمزة المصطفى
حمزة المصطفى
المدير العام لتلفزيون سوريا. حاصل على درجة دكتوراه من جامعة أكستر البريطانية في العلوم السياسية. عمل سابقاً باحثاً في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ونشر كتب وأبحاث علمية محكمة، وعدّة مقالات.