فرنسا.. وإرث الهيمنة

06 مايو 2015
فرنسا قادرة على تحقيق قصص نجاح اقتصادية لافتة (أرشيف)
+ الخط -
مثل جميع الاقتصادات المتقدمة، عانت فرنسا منذ العام 2007 من آثار الركود الاقتصادي العالمي، ولكن تداعياتها السلبية على الاقتصاد الفرنسي قد تم استيعابها بشكل ملفت للغاية. يعود ذلك، جزئياً، إلى وجود قطاع مصرفي ينتهج نهجاً مالياً متحفظاً، وإرث طويل من تدخل الدولة في أركان الاقتصاد. إضافة إلى ذلك، تعتبر فرنسا رائدة العالم المتقدم في ما يتعلق بالنسبة المرتفعة للقوى العاملة التي تعمل في وظائف القطاع العام، التي بلغت 25% في عام 2013، ورغم ذلك، لم تتأثر كثيراً بالانكماش الاقتصادي العالمي مقارنة بالدول الأخرى.

لم يخرج الاقتصاد الفرنسي عن نطاق السيطرة، مثل اقتصادات اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، لكن العديد من الفرنسيين، في قرارة أنفسهم، يخشون من أن يكونوا الضحية المقبلة، فيما لو تعثر اقتصاد دولة أوروبية أخرى. لكن بالنظر لما يمتلكه الاقتصاد الفرنسي من قوة ومتانة، فإن ذلك لم يحدث حتى الآن، وربما لن يحدث مستقبلاً. في الواقع، فإن الأمر يتوقف، بشكل كبير، على حجم الإرادة السياسية المتوفرة لدى القادة الفرنسيين، ومقدرتهم على إعادة الاقتصاد الفرنسي، مرة أخرى، إلى مساره الصحيح، وجعله قادراً على المنافسة على المستوى العالمي.

تعتبر فرنسا من بين الاقتصادات الصناعية الرائدة في صناعة السيارات، والطيران، والسكك الحديدية، وكذلك في مستحضرات التجميل، والسلع الفاخرة، والتأمين، والصناعات الدوائية، والاتصالات، وتوليد الطاقة، والدفاع. كما أن فرنسا وجهة سياحية معروفة، ومقصد للعديد من سياح العالم، على الأقل من حيث العدد، ولكن ليس من حيث الإنفاق السياحي.

وهناك شركات فرنسية عديدة تعمل في جميع أنحاء العالم، فمنها ما يدير الحافلات الحمراء الكبيرة في لندن، والقطارات في أوروبا، ومنها ما يقوم بتشغيل محلات "السوبر ماركت" في أربع قارات، بما في ذلك أكثر من 200 "هايبرماركت" في الصين. وفي ما يتعلق بسوق العمل، فإن فرنسا لديها واحدة من أعلى مستويات الخريجين لكل ألف عامل، مقارنة مع أي بلد أوروبي آخر.

بدأت القصة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حينما بدأ الاقتصاد الفرنسي بالتطور التدريجي من اقتصاد يعتمد على الزراعة، حيث كان أكثر من 40% من السكان يعيش على الزراعة، إلى اقتصاد صناعي حديث، يتميّز بوجود شركات على مستوى عالمي. بين عامي 1945 و1986، بدأ القادة السياسيون على امتداد حكم شارل ديغول (المحافظ) إلى فرانسوا ميتران (الاشتراكي)، بتبني سياسات اقتصادية مرتبطة بالتأميم وتدخل الدولة في بعض مناحي الحياة الاقتصادية.

من المفارقات، أثبتت سياسة تدخل الدولة الفرنسية في الاقتصاد أنها واحدة من نقاط القوة الرئيسية للاقتصاد الفرنسي. بالنسبة لديغول، فقد كان ينظر إلى سياسة تأميم الشركات كأداة للتنمية الاقتصادية، إضافة لكونها عاملاً أساسياً لتحقيق بيئة مستقرة للقطاعات الرئيسية للاقتصاد الفرنسي، فقام بتأميم شركة صناعة السيارات، "رينو"، في عام 1945، لمساعدتها على التعافي من آثار الحرب المدمرة، ولإرضاء المعارضة الشيوعية والنقابات العمالية. وقد ساعد تدخل الدولة في قطاع السيارات شركة "رينو" في أن تصبح واحدة من اللاعبين الرئيسيين في صناعة السيارات في العالم، حيث لا تزال الحكومة الفرنسية تملك حصة 15% في هذه الشركة.

بالنسبة لميتران، أخذ التأميم، في البداية، شكلاً أكثر عمقاً واتساعاً. خلال فترة رئاسته الأولى، بدءاً من عام 1981، أطلق ميتران سلسلة من عمليات التأميم لمجموعة واسعة من الشركات في مختلف القطاعات، بما في ذلك المصارف والتأمين والمستحضرات الطبية. لكن خلال ولايته الرئاسية الثانية، طبّق ميتران مقولته الشهيرة "لا هذا ولا ذاك"، مقترحاً سياسات اقتصادية جديدة غير مرتبطة بالتأميم ولا بالخصخصة. في الواقع، كانت هذه طريقة لبدء سياسات اقتصادية جديدة، حيث بدأت فرنسا، منذ ذلك الوقت، عملية خصخصة كبيرة استمرت خلال فترة رئاسة جاك شيراك، لتصل ذروتها في عهد حكومة رئيس الوزراء الاشتراكي السابق ليونيل جوسبان.

وبعيداً عن النقاشات حول قضية التأميم والخصخصة، فقد حافظت الدولة الفرنسية على متوسط أعلى في ما يتعلق بالقدرة على التدخل في الشؤون الاقتصادية، وهي لا تزال أحد المساهمين الرئيسيين في المؤسسات العامة، حيث تمتلك حصة الأغلبية في شركة كهرباء فرنسا، وحصة لا تقل عن 27% في شركة فرانس تيليكوم (أورانج).

ونتيجة لنهج التدريب العملي المتبع في إدارتها لدفة الاقتصاد، أصبحت فرنسا قادرة على تحقيق قصص نجاح اقتصادية لافتة، حيث تعتبر قصة نجاحها في مجال البنية التحتية للسكك الحديدية، الأكثر إشراقاً على مستوى العالم، فهي أول دولة في العالم تنشئ شبكة سكك حديدية متخصصة عالية السرعة.

إقرأ أيضا: دليلك السياحي المغربي لقضاء عطلتك بأقل تكلفة
المساهمون