فرنسا و"الغزو" الأنكلوسكسوني: وانقلب السحر على الساحر

20 يونيو 2019
إل سيد، من تنفيذ حروفية في بباريس
+ الخط -

هيمنة اللسان الأنكلو - أميركي واقعٌ لا جدال فيه، لم تفتأ تشتدّ منذ نهاية القرن الماضي، حين أصبحت العولمة، بمركزها الأميركي، "نموذجاً" يَفرض على بقية العالم شروطه، ومن بينها الشروط اللغوية التي توازي الإكراهات الاقتصادية والأمنية. وأصبحت، تبعاً لذلك، مقاومة هذه الهيمنة الأنكلوفونية على قائمة أولويات المثقّفين، في كل بلدان العالم، من اليابان في أقصى الشرق إلى ألمانيا وإسبانيا في القارة الأوروبية، حيث تطاول هذه الهجمة المرجعيات الثقافية بلا استثناء، سواء كانت منضوية ضمن الدائرة الواسعة للثقافة الأنكلوسكسونية، أي ما يُعرف بالغرب، أو كانت خارج هذه الدائرة، في الشرق أو في الجنوب.

وما الرسالة المفتوحة التي توجّهت بها مائة شخصية، من خمسة وعشرين بلداً، إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أيام، إلا صيحة فزعٍ، في هذا الصراع المستعر من عُقود. جوهر الرسالة "مناشدة" الرئيس حتى يدعم مقاومة الفرنسية "للكولونيالية" الإنكليزية، وصمودَها في وجهها، عساها تكون لغة موازية لها.

لكن ما يلفت في هذا "البيان المفتوح" أنّ ما اشتكى منه هؤلاء المثقفون، وهم من أبرز الكتّاب والمدرّسين والفنانين، هو عين ما تمارسه الفرنكوفونية اليوم وما مارسته، إبّان عقود الاحتلال الطويلة، من غطرسةٍ وطمسٍ للثقافات الأصلية وللغات الشعوب المستعمرَة، بل ومِن تدخُّل سافر في خياراتها التعليمية والثقافية. إذ كثيراً ما توضع المصالح الاقتصادية والمساعدات المالية كورقة ضغط حتى تبقى اللغة الفرنسية في هذه البلدان برتبة أعلى من العربية أو أية مكوّنات لغوية أخرى.

ما ينتقده هذا "الخطاب" من هيمنة الإنكليزية هو ذاته ما ارتكبه دعاة الفرنكوفونية من "جُرم" ثقافي في حق العربية وبقية الألسن الأفريقية والهندو-صينية طيلة الحقبة الاستعمارية وما بعدها، قبل أن تستعيد هذه اللغات بعضاً من عافيتها. حتى أننا لو عَوّضنا كلمة "فرنسية"، الواردة في هذه الرسالة، بكلمة "عربية" لوجدنا أن كلّ ما قيل عن الإنكليزية ينطبق تماماً على الفرنسية وعلى سياسات الفَرْنَسة التي هدفت إلى القضاء على الضاد في كل معاقلها، تحت مجموعة من الذرائع الواهية.

ويُذكّرُ ما يشعر به الفرنسيّون اليوم من خطر الإنكليزية على لغتهم وما نراه من صمت عن انتقاد الهيمنة الفرنكوفونية، بما كان عليه مثقّفو فرنسا من نأيٍ بالنفس عن نقد سياسات بلدهم الاستعمارية، من القرن التاسع عشر إلى أربعينيات القرن الماضي، حتّى تعرّضت فرنسا نفسها للاحتلال الألماني وذاق الفرنسيّون من الكأس نفسها التي أذاقوها للجزائريّين والتونسيّين والكونغوليين وغيرهم من الشعوب.

وكانت هذه الصدمة سبباً في إيقاظ ضمائر بعض الفرنسيّين وظهور نخبة سياسية مناصرة لحقوق الشعوب المحتلّة، مثل بيير منداس فرانس وإدغار فور وفرانسوا ميتران. ونأمل أن تكون هذه الرسالة سبباً في توعية هؤلاء المثقّفين بما ترتكبه الفرنكوفونية في حق اللغات الأخرى، وأن يساهموا من موقعهم في رفع يد فرنسا الثقيلة على ثقافات "مُستعمَراتها السابقة".

ولئن كانت مقاومة الغزو الأنكلو-أميركي مطلباً عاجلاً وحقّاً مشروعاً، فينبغي ألّا يكون ذلك عبر تعزيز الفرنسية اللامشروط ودعم مواقعها في فضاءات ثقافية أخرى وعلى حسابها وحساب تراثها، بحيث تصبح سطوة الإنكليزية على الفرنسية "قميص عثمان" من أجل تبرير غزو جديد ضد الشعوب والدول المستضعفة.

ويقع نصيب الأسد، في هذه المعركة، على عاتق مناصري الضاد، من ساسة وفنّانين ومدرّسين ومفكّرين، فهم الذين يوفرون أدوات التصدّي لهيمنة الفرنكوفونية أو الأنكلوفونية في ديارهم، حتى تتوطّد مكانة العربية داخل منظومات الألسن البشرية، وتتدعّم في المحافل الدولية والهيئات العالمية وتأخذ مكانتها كاملةً ضمن التنوّع الثقافي. وسبيل ذلك عدم الرضوخ إلى نموذج لغوي وحيد، كائناً مَن كان الناطقون به وكائناً ما كانت القوّة المالية والسياسية التي تعضده، وعدم الانخداع بتأثيرها الناعم في الثقافات الأخرى.

ومن جهة أخرى، يبدو التوجه إلى رئيس دولة لإنقاذ لغة مجرّد مسار رمزي، أكثر منه واقعي. فهو يقوم ضمنياً على مبدأ الدولة - الراعية (Etat –providentiel) القادرة على كل شيء، في حين أنّ التصدي لهذه الظاهرة يتمّ عبر استراتيجيات بعيدة المدى بعد درسٍ نظري معمّق، وتتضافر في صياغتها جهود المجتمع المدني ووسائل الإعلام والأنظمة التربوية والبحثية في المدارس والمعاهد والجامعات. كما أنّ الاختراق الرقمي للكفاءات اللغوية صار من العمق والنفاذ بحيث لا تصدّه قرارات سياسية منفردة أو تدابير آنية ولا "رسالة" اشتكائية، مهما كانت نبرتها وبلاغتها.

من الناحية العلمية، اهتم بهذه الظاهرة كلٌّ من كلود حجاج ولوي- جون كالفيه، وهما من كبار علماء اللسانيات الفرنسيّين (وكلاهما من مواليد تونس ويتكلّم العربية)، حيث برهن الأول على أن الأحادية اللغوية، في زمن العولمة، هي البوّابة التي تفتح على خطر أشدّ هو أحادية الفكر والدغمائية. وأمّا كالفيه، فقد درس المسألة من منظور جيو-سياسي واشتغل على وصف البعد الإجرائي لهذا الغزو.

وقد قدّم اللغويان توصياتٍ تيسّر الفكاك من براثن الهجمة الأنكلوسكسونية، وأقاما الحجّة على أنّ حماية اللغة لا تتمّ عبر الاشتكاء والاكتفاء بالبكائيات والتنديد، ومن ذلك ما نراه في الوسائط الإعلامية العربية مع كل يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر، اليوم العالمي للغة العربية. إذ لا شكّ أنّ لغتنا أولى من الفرنسية بالتفكير الجدّي ضد هذه الهجمات، لأنّ التهديدات التي تترصّدها أعتى من تلك التي تتهدّد الفرنسية، فلا ننسى أنّ دعاة هجر العربية بعضهم عربٌ، تتعالى أصواتهم من داخل مجتمعاتنا. ومن جهة ثانية، قد تخسر الحضارة البشرية، بشكل عام، بتقلّص العربية أكثر من خسارتها تجاه الفرنسية، باعتبار أنّ الضاد هي رابع لغات العالم، بينما الفرنسية سابعتها.

ولعلنا نتبيّن هنا ما يجب على المثقفين العرب استشفافه من أخبار معارك اللغات وهيمنتها. فهذه حرب ضروس، ولا سبيل للخروج منها سالمين سوى بتطوير لغتنا عبر الاستناد إلى البناءات العلمية والتنظيرات المعمقة التي تساعد على الخروج بإستراتيجية فعالة، على المدى الطويل، تقي من الخطأ في أدوات الصراع وخوض حربٍ بغير أسلحتها.

وفي النهاية، لا يخفى أنّ الهيمنة اللغوية ليست سوى ترجمة للتفوق السياسي والاقتصادي والعسكري. ولا فائدة في الحديث عن تعزيز اللغات، في مواجهة الإنجليزية، ما لم تطوّر بقية دول العالم حضورها الإقليمي وتعزز من إمكاناتها الإنتاجية وتعطي بذلك مصداقية لدعوات الحفاظ على ثقافاتها.



المساهمون