شكّل فوز منتخب فرنسا لكرة القدم بكأس العالم روسيا 2018، محور دراسات اجتماعية وسياسية، تركزت بشكل أساسي على تنوّع النسيج الاجتماعي الفرنسي، ونجاح التجربة على المستوى الرياضي تحديدا، خاصة أنها اتكأت بشكل أساسي على الاهتمام بالقواعد السنية الصغيرة والشباب والواعدين.
وتشير لغة الأرقام إلى أن 52 لاعبا من أصل 736 لاعبا شاركوا في كأس العالم بروسيا 2018، وُلدوا في فرنسا، وتخرّجوا من قواعد الناشئين والشبان هناك، وهو رقم قياسي يثبت النجاح المبهر لاستراتيجيات العمل على قواعد الناشئين بكرة القدم في فرنسا وجودة نظام التدريب الفرنسي.
وبحسب دراسة نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية؛ فقد شهدت منافسات كأس العالم الأخيرة التي أقيمت مؤخرا على الأراضي الروسية، مشاركة 52 لاعبا مع "منتخبات مختلفة"، لكنهم نشأوا في مراكز التدريب الفرنسية؛ أي ما يزيد عن قائمتين لمنتخبين مشاركين في البطولة (كل قائمة 23 لاعبا)، وهو رقم قياسي لم يشهده أي مونديال سابق منذ انطلاق المسابقة عام 1930.
وفي الدراسة التي أعدتها مجموعة "رن ريبيت"، قام الإخصائي في علم الاجتماع الرياضي بجامعة ملبورن الأسترالية، داركو كوكيتش، بجمع قاعدة بيانات لـ3840 لاعبا شاركوا في مختلف الكؤوس العالمية منذ مونديال 2002. وأظهرت الدراسة أنّ عدد اللاعبين الذين نشأوا في مراكز التدريب الفرنسية، تضاعف بشكل لافت للغاية من عام إلى آخر خلال الـ16 عاما الماضية.
وبينت الدراسة أنّ الـ52 لاعبا الذين نشأوا في مراكز التدريب الفرنسية، شارك منهم 23 لاعبا فقط ضمن المنتخب الفرنسي لكرة القدم، بينما توزع الـ29 لاعبا الآخرين على منتخبات أخرى شاركت في المونديال (9 مع المنتخب التونسي، 8 مع المنتخب المغربي، 8 مع السنغال، 3 مع منتخب البرتغال، 1 مع منتخب الأرجنتين).
وذكرت الدراسة أنّ هذه الطفرة في أعداد اللاعبين الذين تدرّبوا في المراكز الفرنسية، تعود إلى القوانين التي سنّها الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" في عام 2003، والتي تتيح للاعبين الشبان المشاركة في مباريات ودية مع منتخبين مختلفين، إن كانت أصولهم مزدوجة، مع ترك الخيار لهم في المشاركة في المباريات الرسمية مع منتخب واحد.
وعزت الدراسة الأرقام المذكورة، إلى توافد عدد كبير من المهاجرين إلى فرنسا، بين عامي 1946 و1990، إذ قُدروا بـ2.2 مليون مهاجر، كانت فرنسا بحاجة إلى خدماتهم وتواجدهم على أراضيها لأسباب اقتصادية واجتماعية مختلفة، وهو ما أفرز تنامي ظاهرة اللاعبين أصحاب الجنسيات المزدوجة الذين اختار عدد منهم المشاركة مع منتخبات أخرى.
تصدير اللاعبين إلى الدوريات الكبرى
وتميزت فرنسا أيضا بتوفير أكبر عدد من اللاعبين الذين شاركوا في الكؤوس العالمية التي أقيمت منذ بداية القرن الـ21، بواقع 216 لاعبا، وُلدوا في فرنسا، بينما تأتي البرازيل ثانية بـ148 لاعبا، رغم أنّ الدوريات الأوروبية الكبرى تميل إلى خطف المواهب البرازيلية على حساب الفرنسية، في حين يأتي اللاعبون الشبان الألمان والإيطاليون في مراتب لاحقة.
ويؤكد موقع "سبورتينغ إنتيليغنس"، المتخصص في التحليل والمعلومات الرياضية، هذه الأرقام المذكورة من خلال مقارنة أصدرها عام 2012، حول فرق اللاعبين الناشئين في الأندية المنتسبة للدوريات الخمسة الكبرى في أوروبا، وعددها 2286 لاعبا، موزعين على 98 فريقا؛ إذ نالت فرنسا المركز الأول بـ13 فريقا في قائمة الدول المصدرة للاعبين أصحاب المستويات العالية، في حين جاءت إسبانيا في المرتبة الثانية بـ8 فرق، و7 لألمانيا، و6 لإنكلترا، و5 لإيطاليا.
ودعم تقرير المرصد الدولي لمتابعة كرة القدم، الصادر في شهر مايو/أيّار الماضي، الدراسات السابقة، من خلال وجود فرنسا في الصف الثاني في قائمة عدد اللاعبين المغتربين في دوريات أخرى، والمقدر بـ821 لاعبا، في حين تصدرت البرازيل الترتيب بـ1236 لاعبا.
الضواحي "الباريسية" تنجب المواهب
تعتبر ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، إحدى أهم الأماكن التي يترعرع فيها اللاعبون الشبان، وهو ما تبين خلال آخر خمس نسخ من كأس العالم؛ إذ برز 60 لاعبا نشأوا في عاصمة النور باريس، وهو رقم لم تصل إليه أي مدينة أخرى عرفت بشغفها بكرة القدم في العالم، ونذكر منها مدينة ساو باولو البرازيلية، أو بوينس آيرس الأرجنتينية.
وتتأكد هذه الإحصائيات من خلال كأس العالم روسيا 2018، فقد شارك 15 لاعبا في المونديال الأخير وُلدوا في باريس، 6 منهم ارتدوا قمصان المنتخب الفرنسي مثل كيليان مبابي وبول بوغبا.
تدريبات علمية وخاصة
مثّل فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم، فرصة لاكتشاف مواهب فرنسية جديدة، ستحظى بمتابعة أكبر الفرق الأوروبية، وستتنافس على لقب أفضل لاعب في العالم، إلاّ أنّ هذا التتويج كشف عن نقاط قوة أخرى تميزت بها كرة القدم الفرنسية، والتي تعود أساسا إلى إنشاء أكثر من 36 مركز تدريب في جميع أنحاء فرنسا، خلال العشر سنوات الأخيرة، مع اعتماد طرق علمية لاختيار المواهب وكيفية صقلها وتدريبها، حيث وصل عدد اللاعبين الناشئين خلال عام 2018 فقط إلى 2000 شاب، تتراوح أعمارهم بين 15 و20 عاما.
التكلفة الاقتصادية والبشرية
يكلف النجاح الباهر للكرة الفرنسية في إنتاج مواهب كروية جديدة، خسائر مادية وبشرية كبيرة، نتيجة ضعف نسبة نجاح المواهب التي تحتضنها مراكز التدريب من خلال التميز عالميا، نتيجة الضغط الفكري والجسدي الذي يتعرض له الشبان في سنّ مبكرة من أجل النجاح، وهو ما يفقدهم مواهبهم.
وأشارت آخر تقارير الاتحاد الفرنسي لكرة القدم ومجلس الشيوخ الفرنسي إلى أنّ 50% من الشبّان الذين أمضوا أكثر من عامين في مراكز التدريب الرسمية الخاصة بالدولة، يفشلون في التأهل أو العبور صوب مراكز تدريب الفرق الفرنسية نظير تباين المستويات، في حين أنّ 20% من العدد الإجمالي يصلون إلى إبرام عقد احتراف مع أحد نوادي الدوري الفرنسي.