بدأ صوت الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مشهد لبنان ما بعد الانفجار عالياً وصاخباً ولافتاً للأنظار، بدأ وكأنه الآمر الناهي في المشهد المعقد كله، والمنقذ الأول للبنان من أسوأ أزمة إنسانية يعرفها في تاريخه الحديث، والمنتقد العلني للنظام الحاكم للدولة العربية والذي طالبه بإجراء "تغيير عميق".
بدأ ماكرون وكأنه المحارب الأول للفساد داخل لبنان حينما تحدث من قلب العاصمة المنكوبة عن فساد النخبة الحاكمة، ومشككا فيها حينما قال إن "التمويل متاح للبنان، لكن يتعين على قادته تنفيذ الإصلاحات أولا"، وأن هناك ضرورة لتوصيل المساعدات إلى الشعب اللبناني على نحو فعّال، وأن المساعدات يجب أن تذهب مباشرة إلى حيث يحتاجها الناس على الأرض وبتنسيق مع الأمم المتحدة.
ماكرون هو أول رئيس يزور لبنان بعد الانفجار المروع، ومن هناك دعا إلى تحرك عاجل لدعم البلد المنكوب، كما دعا إلى إجراء تحقيق دولي في الانفجار "للحيلولة دون إخفاء الأمور ولمنع التشكيك" على حد قوله.
وماكرون هو الذي سارع في دعوة زعماء العالم إلى قمة دولية عقدت بالفعل أمس الأحد لحشد المساعدات والمنح لصالح اغاثة شعب لبنان.
ببساطة بدأ الرئيس الفرنسي وكأنه المدير الأول لأزمة لبنان الإنسانية، والمانح الأكبر للمساعدات المالية المتدفقة عليه، بل والمنقذ له من أسوأ أزمة مالية واقتصادية تمر بها البلاد، رغم أن مساعدات فرنسا التي أعلنها خلال مؤتمر المانحين كانت هزيلة حيث لم تتجاوز 35 مليون دولار.
وبغض النظر عن قيمة المساعدات الهزيلة التي تعهد بها ماكرون للبنان، فإن الواقع يقول إن فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو، هي من تحتاج العون المالي والمساعدات أكثر من الآخرين في ظل الخسائر الفادحة التي تتعرض لها البلد الأوروبي جراء أزمة كورونا وتراجع مؤشرات الاقتصاد الكلية.
فالحكومة الفرنسية تقدّر خسائر قطاع السياحة الفورية للأزمة الصحية لكورونا بنحو 40 مليار يورو، كما قال وزير الدولة لشؤون السياحة، جان بابتيست ليموين، أمس الأحد.
والصادرات الخارجية لفرنسا شهدت تراجعا حادا في الربع الثاني من العام الجاري، حيث انخفضت بنسبة 28.9 % مقارنة بالربع الأول من العام، كما تراجعت بنسبة 34.6% خلال شهر يونيو الماضي.
وعجز الميزان التجاري ارتفع في ذلك الشهر، بمعدل غير مسبوق، في ظل زيادة حجم الواردات عن الصادرات وإجراءات العزل العام الصارمة.
والاقتصاد الفرنسي انكمش بأعلى وتيرة، لم يشهدها منذ الحرب العالمية الثانية في 1945، بلغت 13.8% في الربع الثاني من 2020، إذ انهار الاستهلاك والاستثمار والتجارة في ظل إجراءات أزمة كورونا.
أضف إلى ذلك التكلفة الباهظة التي ستتحملها الخزانة الفرنسية لتمويل خطة النهوض بالاقتصاد، واحتواء خسائر أزمة كورونا والبالغة 560 مليار يورو، فماكرون أعلن مؤخرا عن ضخ حزمة إضافية لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية وتنشيط الاقتصاد لجائحة كورونا لا تقل قيمتها عن 100 مليار يورو، إضافة إلى أن الحكومة سبق أن رصدت نحو 460 مليار يورو لدعم القطاعات والاقتصاد منذ بدء انتشار الوباء.
إزاء هذه المؤشرات المتدهورة، فإن فرنسا العاجزة والتي تبحث خزانتها العامة عن سيولة نقدية ليس لديها القدرة على مساعدة دولة متعثرة ماليا هي لبنان، وما يفعله ماكرون هو لأهداف سياسية وربما شخصية بحتة والدعاية له ولبلاده على حساب بلد منكوب، وعلى لبنان أن يبحث عن مانحين دوليين أخرين إذا ما أراد الحصول على قروض ومساعدات خارجية، وقبلها عليه أن يعتمد على نفسه لأنه لا أحد يمنح مساعدات لوجه الله، بل لأهدافه الخاصة، وما أكثر أهداف فرنسا في لبنان.