يلقي الفرنسيون، اليوم الأحد، النظرة الأخيرة على رئيسهم الأسبق جاك شيراك، الذي مات عن سن 86 عاماً، قبل أن يوارى الثرى، يوم غد الاثنين، في مقبرة "مونبارناس"، إلى جانب قبر ابنته لورانس، التي اعتبر شيراك رحيلها "مأساته الكبرى"، وقد ماتت بعد مرض عضال في 2016 عن 58 سنة.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأسبق لم ينجز إصلاحات كبيرة في بلاده، وهو ما يلام عليه أثناء تقييم فترة ترؤسه للجمهورية مرتين متتاليتين، إلا أن مواقفه السياسية ودفاعه عن استقلالية القرار الفرنسي، سواء في الصراع العربي الإسرائيلي أو معارضة الحرب الأميركية على العراق (والتي يمتدحها 71 في المائة من الفرنسيين) منحته مكانة خاصة في قلوب غالبية الفرنسيين.
وهو ما يؤكده استطلاع للرأي نشرته صحيفة لوجورنال دي ديمانش، حيث نقرأ أن أفضل رئيس في الجمهورية الخامسة هو شارل ديغول، بنسبة 30 في المائة، وإلى جانبه، وبنفس النسبة جاك شيراك، ويأتي ثالثاً ميتران، بنسبة 17 في المائة، ثم يتقاسم إيمانويل ماكرون ونيكولا ساركوزي المرتبة الرابعة، بنسبة 7 في المائة، ويأتي جورج بومبيدو في المرتبة السادسة، بنسبة 5 في المائة، وفاليري جيسكار ديستان في المرتبة السابعة بنسبة 3 في المائة، وأخيرا، فرانسوا هولاند، بنسبة 1 في المائة.
واستطاع هذا "البلدوزر" السياسي، كما يوصف، أن يفرض نفسه ويطبع السياسة الفرنسية، خلال فترة طويلة، لكنه ظل إلى جانب ذلك، قريباً من الشعب الفرنسي ومن المواطنين. ولم تؤثر سخرية قناة كنال بلوس الفرنسية من شيراك في أحد برامجها الشهيرة واتهامه بالكذب، على شيراك في الانتخابات، بل عاد إلى السلطة، ولم يغادرها حتى انتهت ولايته الرئاسية.
والطريف أن جاك شيراك هو الرئيس الفرنسي الوحيد الذي صدر ضده، بعد انتهاء ولايته الرئاسية، حكمٌ قضائي، بخصوص وجود موظفين وهميين في بلدية باريس، حين كان عمدةً لها، وتقبَّل جاك شيراك، الذي كان باستطاعته تأخير محاكمته، تحمّل مسؤوليته. وهذه المحاكمات نقطة سوداء في سجل شيراك، لكن الفرنسيين، في عمومهم، لا يتذكرونها.
هذا اليوم، هو موعد الفرنسيين، وغيرهم من مقيمين وسياح، لإلقاء النظرة الأخيرة على هذا الرئيس الذي عانى كثيراً من المرَض، بكثير من الصبر، والذي يرحل في وقت تعيش فيه فرنسا احتقانات شعبية، وتقع فيه معنويات الفرنسيين في وضعية غير مُريحة.
كثيرون من الفرنسيين من أصول عربية، ومن مهاجرين عرب وأفارقة، سيحاولون رغم أجواء باريس الممطرة والكئيبة، أن يلقوا نظرة أخيرة على جثمان الرئيس، وكثير منهم وقّعوا في الدفاتر المخصصة لتدوين التعازي، في قصر الإيليزيه وفي كثير من البلديات.
في تاريخ هذا القائد السياسي "خيانات" ارتكبها ضد زعماء من عائلته السياسية اليمينية، سواء تعلق الأمر بشابان ديلماس أو فاليري جيسكار ديستان، و"خيانات" أخرى، ارتكبت ضده من مرافقين ومقربين منه.
في 19 يونيو/حزيران 1991، وجّه شيراك خطاباً شديداً ضد الهجرة، في مدينة أورليان، وذهب في تفاصيل لا يتحدث عنها عادة إلا اليمين المتطرف، ومنها أن المهاجرين يتوالدون كثيراً من أجل الاستفادة من المساعدات الاجتماعية، وأنهم يزعجون راحة وسكينة العائلات الفرنسية التي تشتغل، وهذا الإزعاج عبّر عنه شيراك بأنه يتعلق بـ"الضجيج" و"الروائح".
ولم يتوقف في هذا الانحراف اليميني المتطرف، فعبّر عن معارضته لـ"حقّ الأرض" أو "حق الولادة"، وهو شعار انتخابي يدافع عنه اليمين المتطرف بشراسة، لكن هذه المواقف النشاز لم تؤثر كثيراً على مواقف العرب والمسلمين من حصيلة جاك شيراك، فمعارضته شنّ حرب على العراق من دون تفويض أممي، منحته تعاطف العرب والمسلمين، ولعلّ استهداف معظم الدول الأوروبية المشاركة في حرب الخليج، من خلال اعتداءات إرهابية دامية، واستثناء فرنسا، كان دليلاً على أن موقفه ساهم في السلم الاجتماعي في فرنسا وعزَّزَ من العيش المشترك.
وكانت الجالية العربية والإسلامية في فرنسا قد عانت من مضايقات شديدة بعد إعلان الرئيس فرانسوا ميتران مشاركته في حرب الخليج الأولى، حيث قُمعت التظاهرات الرافضة للحرب وطُرد كثير من العرب من فرنسا، ثم إن العرب احتفظوا لشيراك بكثير من الامتنان لمواقفه "الديغولية" من الصراع العربي الإسرائيلي، بعيداً عن مواقف اليسار الفرنسي، خاصة عناصره الصهيونية، التي كانت محيطة بالرئيس ميتران.
ولا شك في أن كثيراً من هؤلاء العرب ومن أفراد الجالية، يتذكرون الأزمة السياسية والدبلوماسية التي تسبب فيها الرئيس شيراك، حين أصرّ في 22 أكتوبر/تشرين الثاني 1996 على أن يزور الحي الإسلامي في القدس، وأعلن رفضه الحاسم لوجود جهاز أمن إسرائيلي إلى جانبه، وهو ما قابله الفلسطينيون بالتحية والامتنان، ولعل أفضل تعبير عنه، هو متانة علاقة "الدكتور" شيراك بالزعيم ياسر عرفات، ولعل هذا الموقف يختلف عن موقف رئيس الحكومة جوسبان الذي انتقد المقاومة اللبنانية في جامعة بير زيت، فقُوبل بالاحتجاج.
في الخامس من سبتمبر/أيلول 2006، شاهد الرئيس جاك شيراك، إلى جانب زوجته بيرناديت، وبحضور جمال دبوز ورشيد بوشارب فيلم "أندجين" (عن الجنود العرب والأفارقة في جيش فرنسا الكولونيالي، الذين يعيش من تبقى منهم على قيد الحياة أوضاعاً صعبة)، فتأثر أيما تأثر، وقرر، بدعم ظاهر من زوجته، فعل شيء لمصلحة هؤلاء. وكان الأمر يتعلق بنحو 80 ألفا من قدماء الجيش، تتجاوز أعمارهم سن 65، ويوجدون في 23 بلدا، أغلبهم في الجزائر والمغرب 40 ألفا، وفي أفريقيا السوداء، خاصة في السنغال وتشاد ومالي.
وصدرت قرارات حكومية بتوصية شيراك بجبر الضرر، ووضع حد لهذا "الحلف القديم"، الذي امتد 40 عاماً، وهذا التمييز بين رفقة السلاح، الفرنسيين وغيرهم، وأثلجت هذه اللفتة التي عبر عنها شيراك، صدور المعنيين بالأمر وأُسَرهم ومنحت للرئيس الفرنسي درجة إضافية من المحبة في قلوب العرب والأفارقة.
محطات كثيرة في حياة جاك شيراك، تجد لها امتنانا في قلوب العرب والأفارقة، رغم بعض المحطات التي يغلب فيها بؤس السياسة والانتهازية (مثل فرض حالة الطوارئ في 20 يونيو/حزيران 2006، بعد، وفاة فتَيَين، عربي وأفريقي، صعقاً بالكهرباء بعد مطاردة من الشرطة، من دون مساعدة من أحد).
والكثيرون من هؤلاء العرب ومن المهاجرين من أصول عربية، وهم ينتقلون مع غيرهم من فرنسيين وسياح إلى منطقة "ليزانفاليد"، لإلقاء النظرة الأخيرة على الرئيس الراحل، والمشاركة في هذا "التكريم الشعبي" الذي طالبت به عائلتُهُ، ينتابهم حزنٌ عميق وحقيقي على هذا الرجل "الاستثنائي"، الذي يرحل وترحل معه، إلى الأبد، صورةٌ ما عن "رؤساء فرنسا".