في حديثٍ تلفزيونيّ تناول المظاهرات في فرنسا ضد العنصرية، تضامناً مع أحداث الولايات المتحدة الأميركية، ذكر برونو ريتايو (سياسي فرنسي) أنّه لا يمكن المقارنة بين البلدين، مُشيراً إلى استنكار إلى آيسا مايغا، الممثّلة الفرنسية السوداء، حين قالت، في النسخة الـ45 (28 فبراير/شباط 2020) لجوائز "سيزار"، إنّها تُحصِي دائماً عدد السود في احتفالات كهذه، لتستنتج بالطبع أنّه قليل. برأيه، لا تقوم "الجمهورية" (الفرنسية) على نظام المجموعات العرقية الملوّنة، فألوانها الوحيدة هي "أزرق وأبيض وأحمر" (العَلَم الفرنسي).
هذه مواقف ليست فقط رسمية أو قانونية. لا يمكن مقارنة العنصرية في البلدين، لاختلاف التاريخ والنظرة إلى الآخر. في فرنسا، أقلّه قانونياً، يؤمنون بأمّة واحدة، تمتزج كافة مكوّناتها لتشكّل مجموعة واحدة لا جماعات. هذه النظرة الفرنسية، وإنْ شابتها تحوّلات في العقد الأخير، تنعكس في السينما. فالنظرة إلى الأجنبيّ، أو العنصرية في السينما الفرنسية، مختلفة عن تلك الأميركية، إذْ ليس هناك هندي أحمر ولا عبيد سود شغلوا السينما الأميركية، بل عمال كانوا مهاجرين وباتوا فرنسيين. هذا لا يعني عدم اتّهام السينما الفرنسية أحياناً بنقص التنوّع، وبوضعها الفرنسيين السود وذوي الأصول المهاجرة، حين يوجدون، في أدوارٍ تتوافق والمخيّلة الجماعية. أدوار محدّدة مسبقاً، وذات مضمون نمطي. هذا ما ذكرته مايغا، التي فاجأت الجمهور بتصريحها في خطابٍ، وُصف بأنّه مُشوّش، بينما اتّهمها البعض بالعنصرية، لأنّها تُحصي على أساسٍ عرقي.
لكنّ السينما الفرنسية، في تنميطها الآخر على أساس عرقي أو ديني، لا سيما في الأفلام الفكاهية، تدعو أيضاً إلى نبذ العنصرية، وتُبْديها لتنتقدها. يبدو هذا من استعراضٍ تاريخي للنظرة السينمائية إلى الأجنبي، أي المهاجر القادم من أفريقيا وأوروبا.
قبل سبعينيات القرن الـ20، كان الأجنبي غائباً تقريباً عن السينما الفرنسية، باستثناء موجات هجرات الإيطاليين والإسبان والبولنديين للعمل في فرنسا. حينها، بدأ الوعي بوجود المهاجر. "طوني" (1934) لجان رونوار، عن هؤلاء العمّال، وعن فرنسا التي "لا يُمكنها أنْ تبقى كما هي، لأنّ الأجانب يأتون ويهبون جهودهم ودماءهم لإنقاذ الأمّة". النظرة إيجابية كذلك مع "إحياء" (1937) لمارسيل بانيول، عن إيطالية تمسّكت بقريتها الفرنسية، خلافاً عن الفرنسيين.
ساد تياران عن دور الأجنبي في الوحدة الوطنية. فهو إمّا مُهدِّدٌ للهوية ومُسبِّب للأزمة، وإما حامل قيم ومنقذ بلد مُنهك. توطّد التوجّهان في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وهذه فترة مهمّة بسبب التغيّرات اللاحقة في المجتمع الفرنسي جرّاء وجود المهاجرين. ثم ظهر منحى لإظهار الأجنبي أكثر في المجتمع الفرنسي، لناحية الاهتمام بالظروف الصعبة للمهاجرين واستنكار العنصرية والدعوة إلى تغيير النظرة للمهاجر، الذي ظهر ضحية وعاملاً بائساً يخضع لشروط عمل قاسية وغير آمنة، كما في "السفراء" (1976) للناصر القطاري، عن حياة عمّال تونسيين وعيشهم في جماعات منعزلة، لعدم الرغبة في رؤيتهم خارجاً، أو لانعدام إمكانية العيش مع الفرنسيين. كما برز المهاجر ذليلاً ومُستَغَلاً في "رعب فوق المدينة" (1975) لهنري فيرنوي، عن مفتّش شرطة يكتشف إقامة عشرات العمّال من شمال أفريقيا في قبو مقهى، في ظروفٍ لا تُحتَمل.
هناك أفلام تدعو إلى التفكير والتأمّل في استغلال الغرب للأجنبي والفقير القادِمَين من عالم متخلّف. وفي صورة مجازية، يبرز "مصّ" الأغنياء لدماء الفقراء الأجانب، كما في "علاج الصدمة" (1972) لآلان جوسوا، عن عمّال برتغاليين.
يُعتبر "أليز، أو الحياة الحقيقية" (1970) لميشال دراش أحد أوائل الأفلام الفرنسية، المعَبّرة عن علاقة عاطفية بين عامل جزائري وفرنسية خلال حرب الجزائر، مُبدياً العنصرية في محيط العمل (معمل "رينو" للسيارات) وظروفه، والمعيشة الحقيرة، والقمع البوليسي لعمّال جزائريين. كما يكشف الأحكام المسبقة، المرتبطة بالهجرة: "الجزائريون جميعهم يُدعَوْن محمدا. لا يأكلون في مطاعم المصنع، بسبب الخنزير والخمر". برأيهم، "لا يحبّ الفرنسيون العرب". أما "دبونت لاجوا" (1975) لإيف بواسيه، فأحد أهم الأفلام التي تدعو الفرنسيين إلى التفكير في وضع العنصرية اليومية، من خلال قصة مأساوية لتاجر صغير يكره العرب. في تلك الفترة، كان الأجنبي ضحية النمطية، وضحية مجتمعٍ رأسمالي معادٍ للأجانب. كان من دون وجه أو اسم، ومن دون رغبة أو عزّة نفسٍ، وإنْ لم يُسبّب الخوف، فهو مزعجٌ.
الثمانينيات الفائتة فترة غنية، لناحية تمثيل المهاجر، الذي بات أكثر حضوراً، ولا سيما في الإنتاج التجاري. حصلت تغييرات جذرية وتدريجية في صورته، المنقلبة من ضحية إلى منحرف. فهو فوضوي ومُخلّ بالأمن، يمكنه القضاء على تلاحم الأمة. بات يوصم بسمات تنتقل من جيل إلى جيل، تتعلّق بالعِرق والجنسية والدين. لكنّه لم يكن مركز الفيلم، بل "سنّيداً" للأبطال، يُختَزَل بصورة نمطية كخارج عن القانون ورجل عصابة. الأمثلة عدّة: "الأخ الكبير" (1982) لفرانسيس جيرو، و"تشاو بانتان" (1983) لكلود بيري، و"رجال شرطة فاسدون" بجزءيه (1984 و1990) لكلود زيدي. هذه أفلام تتناول العصابات المغاربية، واتّجارها بالمخدرات.
لكنّ تياراً آخر ظهر حينها، تناول المهاجرين، ولا سيما الجيل الثاني منهم، في حياتهم اليومية، حيث الوحدة والواقع الصعب في الضواحي، التي بدت رمزاً للظروف الصعبة، بسبب الاكتظاظ السكاني، واعتبارها مكاناً للنفي. كان الرائد من أبناء المهاجرين، الذي جعل الضواحي "ديكوراً رئيسياً لسينماه"، مهدي شارف، في "الشاي في حرم أرخميدس" (1984)، مُعبّراً فيه، برهافة، عن الانقطاع بين جيل الآباء من المهاجرين، وأبنائهم الذين نشأوا على الأرض الفرنسية، وراصداً يوما بيوم حياة شباب من الأصول كلّها، في ضاحية فقيرة، "يصيعون" فيها بلا هدف، ويقتلهم الملل والفقر، ومبدياً التمييز الذي يلحقهم بالنسبة إلى التوظيف ونظرة الآخر وتفتيش الشرطة لهم.
في هذا العقد أيضاً، كان الانحراف مشتركاً بين الفرنسيين والمهاجرين من الجيل الثاني، ولم يعد مُقتصراً على مجموعة عرقية لجهة تمثيل حياتها ومصاعبها المرتبطة بالعمل والعنصرية والعنف البوليسي. بدأت ظاهرة "أسود وأبيض وزبدة (العرب)" في أفلامٍ تبدي أهمية الإجراءات السياسية لعلاج "النفي الاجتماعي" في هذه التجمعات السكنية، التي تُنتج الانحراف. كما ظهرت أفلام تناهض العنصرية، مع أبطال معاكسين للعربي النمطي، كـ"كدمة في العين" (1987) لسيرج منيار، عن عربي يُنقذ بيضاء يهاجمها أبيضان: "العالم بالمقلوب"، يقول رشيد، بطل الفيلم. وفي "بلا سقف ولا قانون" (1985) لأنييس فاردا، هناك نظرة إيجابية للعربي، إذْ تستعيد البطلة طعم الحياة حين تلجأ إلى بيت مزارع تونسي.
منتصف التسعينيات الفائتة، أخرج ماتيو كاسوفيتس "الكراهية"، وظهرت أفلام أخرى أدّت إلى فرض تعبير "سينما الضواحي"، مع بروز سينما جديدة تصف أجيالاً خائبة تعيش في أحياء متعدّدة الأعراق. "الكراهية" نوع جديد، قدّم أسلوباً ونبرة خاصة في السينما الفرنسية، وجسّد "غيتو الشمال الأميركي أكثر منه الواقع الفرنسي" (بحسب جان ـ ميشال فرودون)، من خلال وصفه لتجول ثلاثة شبان، أبيض وأسود وعربي، في باريس، في مجابهات اجتماعية وعرقية. كما شكّل الفيلم اكتشافاً لفرنسيين كثيرين، اطّلعوا بفضله على مفردات شبيبة الضواحي. كما ظهر مخرجون من أصول عربية، كمرزاق علواش في "سلاماً يا ابن العم" (1996)، وكريم دريدي في "باي باي" (1995)، عن عربي يعمل في البناء، ويعقد صداقة مع فرنسية، وأسود يتزوّج من بيضاء على وقع زغاريد مغاربية.
تتّصف سينما تلك المرحلة بتأكيد ظهور متطلّبات خاصة بالمجموعات العرقية، المتمسّكة بهويّتها، والمدافعة عن نفسها، لأنهما (الهوية والنفس) الجواب المناسب لعالم يضعهم خارجاً. لكنْ، ظهر معها توجّه آخر يدعو إلى العودة إلى الجذور، والعمل على الذاكرة، وإعادة الاعتبار إلى صورة المهاجرين القدامى، كالأرمن والبولنديين والجزائريين في فرنسا في الستينيات، وعيشهم في ضاحية "نانتير"، وكفاحهم، ثم أحداث 1961 أثناء حرب الجزائر. وبدأ توازن يظهر لمصلحة الناس "الصغار"، يُعبّر عن الوقائع الاقتصادية والاجتماعية. وبدا الأجنبي، عامة، في تسعينيات القرن الـ20، عنصراً للفوضى بالنسبة إلى بعض المخرجين، ومُعبّراً عن قيم التضامن والصداقة بالنسبة إلى آخرين.
مع نهايات التسعينيات وبدايات أعوام الألفين، ظهر "تاكسي" (1998) لجيرار بيريس، عن فرنسي من أصل عربي، يساعد الشرطة في إحباط المؤامرات. ثم بدأت أفلام تقدّم رؤية أعمق للمهاجرين الفرنسيين، ولم يعد السؤال عن معرفة ما إذا كانوا مندمجين أم لا، بل عن قدرة المجتمع على منحهم الظروف للعيش من دون إحالتهم دائماً إلى أصولهم. وغدت السيناريوهات المقترحة تتأرجّح بين موضوعين للتعبير إمّا عن حقائق موجودة لدى الفرنسيين "الأصليين"، وإمّا عن مواقف محدّدة ترتبط بذوي الأصول العرقية.
في أعوام الألفين، انتشرت تعابير جديدة في فرنسا، من نوع "الأقليات المرئية" (بسبب أصولها العرقية)، وأثر هذا بالضرورة على السينما، في الوقت الذي بدأ يُفسَح فيه مكانٌ أوسع للسينمائيين من ذوي الأصول المهاجرة.
وشكّل النجاح الجماهيري والنقدي لـ"السكّان الأصليون" (2006) لرشيد بو شارب ظاهرة جديدة لا يُمكن إغفالها، لأنّ العمل، بـ"نجومه" (جمال دوبوز وسامي نَصري ورشدي زامّ وسامي بوعجيلة)، "يحارب الأفكار التي تنكر الدور الذي لعبه المحاربون العرب والسود في الجيش الفرنسي، خلال الحرب العالمية الثانية"، ويبيّن "التنوّع السكانيّ في فرنسا".
كما شهد العقد الأول من القرن الحالي فيلمين اعتبرا ظاهرتين، ولقيا إقبالاً كبيراً: "المنبوذون" (2011) لإريك توليدانو وأوليفييه نقاش، الذي اقترب عدد مشاهديه من 20 مليون شخص، ما يثبت حاجة الفرنسيين، في تلك الفترة، إلى ما يدعم التلاحم الاجتماعي. والفيلم يُصوّر حياة نبيل غني، أصيب بالشلل نتيجة حادث سيارة، فيقرر توظيف أحدهم ليساعده في تدبير أموره، ويختار شاباً أسود من الضواحي، خرج لتوّه من السجن. يقلب هذا اللقاء حياته، ويكون مبعثاً لمواقف مضحكة وعاطفية، بسبب الاختلاف الكامل بين الشخصيتين الآتيتين من عالمين متباعدين كلّياً في المعرفة والمظهر ونمط السلوك.
أما "ماذا فعلنا بحقّ الإله" (2014) لفيليب دو شوفرون (الجزء الثاني 2019)، فعن عائلة كاثوليكية فرنسية تقليدية، تُصدم بزواج بناتها الأربع من شبان متعدّدي الأعراق والأديان. الجزآن يُصوّران بنمطية كلّ ما يحيط بمفاهيم الاندماج للمهاجرين أو لذوي الأصول الأجنبية في فرنسا. فالعربي يحبّ البروز والادّعاء، واليهودي يشعر بالتفوّق وإسرائيل عنده فوق الجميع، والصينيّ متساهل ومجامل إلى حدّ النفاق، والأسود عنصري تجاه الأبيض المستعمِر. أمّا الفرنسي التقليدي، فيبدو حائراً بين نفور أو قبول على مضض، ومُجبراً على إعادة النظر بمفاهيمه.
أخيراً، هناك "البؤساء" (2019) للادج لي، الأسود القادم من الضواحي، الذي عرف فيلمه نجاحاً كبيراً، وهو عن عنف الضواحي والبوليس معاً. يدعو إلى ضرورة الانفتاح على سينما متعدّدة، وشخصيات متنوّعة باتت تتمثّل أكثر فأكثر في السينما الفرنسية، ليس فقط عبر الوقوف أمام الكاميرا، بل خلفها أيضاً.
والمكوّن الجديد في المشهد السينمائي الفرنسي، في تسعينيات القرن الماضي، الذي تعدّدت تسمياته بين "سينما الضواحي" و"سينما الهجرة"، أعطى للسينما الفرنسية في أعوام الألفين "التجديد الأكثر دلالة والأكثر حيوية والأكثر وعدا". وها هو يتكرّس اليوم مع ظهور أفلام تسرد قصصاً مغايرة، لم يتعرّض لها أحدٌ سابقاً إلا نادراً، وتطرح قضايا تخصّ فئة كانت على الهامش. كما تطلّ وجوه جديدة على شاشات الفن السابع الفرنسي، بحيث بات تواجد السينمائيين من أصول عربية تياراً من "أهم" تيارات السينما الفرنسية. هؤلاء لا يكتفون بأفلامٍ عن محيطهم الضيق، بل ينطلقون أيضاً إلى مواضيع أخرى، سواء في الأدوار (ليلى بختي) أو الإخراج (عبد اللطيف كشيش).
(تمّ الاستناد إلى مجلة Societe، العدد 96، 2007: "الأجانب في الأفلام الفرنسية ـ نظرة اجتماعية" لأمل بو هاش؛ و"السينما الفرنسية من الموجة الجديدة حتى يومنا هذا" لجان ميشيل فرودون، منشورات "دفاتر السينما"، 2010؛ ومحاضرات "شخصية المهاجر في السينما الفرنسية منذ السبعينيات"، متحف تاريخ الهجرة، باريس).